السنيورة يبتزّ المفتي والمستقبل يقاطعه

قرّر تيّار المستقبل الهجوم على دار الفتوى مجدداً، لإخضاعها، وذلك لاقتناعه بالحاجة الماسّة لها في معركته مع النظام السوري، حيث يطمح إلى دورٍ إقليمي، وفي استعداداته للانتخابات النيابيّة، ما دفع بالرئيس فؤاد السنيورة إلى ابتزاز مفتي الجمهوريّة الشيخ محمد رشيد قباني

ما الذي يحصل بين دار الفتوى وتيّار المستقبل ومن خلفه المملكة السعوديّة؟
منذ أسابيع ثلاثة حصل اللقاء الأخير بين الرئيس فؤاد السنيورة ومفتي الجمهوريّة الشيخ محمد رشيد قباني. خرج السنيورة من دارة المفتي مكسور الخاطر، وفي قرارة نفسه، أيقن أن الوقت قد حان لشنّ الهجوم على دار الفتوى و«تكسيرها». قليلة هي الأمور التي اتفق عليها قباني والسنيورة، وكثيرة هي النقاط الخلافيّة. لعب السنيورة مع رأس دار الفتوى لعبة الترغيب والترهيب. أراد منه عودة دار الفتوى إلى موقعها السابق، أي إلى الحديقة الخلفيّة لتيّار المستقبل، تنفّذ رغباته السياسيّة وغير السياسيّة. سأل المفتي في نهاية اللقاء عن مصير تقرير التدقيق المالي في أموال دار الفتوى، الموجود منذ أكثر من ستة أشهر في عهدة السنيورة، فكان جواب رئيس الحكومة الأسبق: عندما توقّع على التعديلات أُخرج التقرير المالي إلى العلن. قصد السنيورة التعديلات التي قُدّمت باسم النائب سمير الجسر والتي تُحوّل موقع مفتي الجمهوريّة إلى ما يُشبه ملكة بريطانيا، ملك من دون سلطات، وهي تعديلات سبق أن رفضها المفتي حسن خالد.

ردّ المفتي على كلام السنيورة، بالقول إن ما يقوم به هو ابتزاز، «وأنا لا أنتظر تبرئة من أحدٍ في الدنيا، ما دام ربي هو العليم بما حصل». لم ينفِ السنيورة أنه يبتزّ، وأجاب بعبارة فاجأت الحاضرين، الذين كانوا إلى جانب المفتي والسنيورة، الوزير السابق خالد قباني، وأمين الداعوق، حتى إن أحد الحاضرين لم يجرؤ على تكرار هذه العبارة. لكن هذه العبارة جعلت المفتي ينظر متفاجئاً ثم يقول للسنيورة: لقد أكّدت لي أنني مصيبٌ برفضي التعديلات التي تطرحها.
ليس هذا ما حصل في اللقاء فقط؛ إذ حاول السنيورة التملّص من أنه حاول التدخّل في مواعيد المفتي، فذكّره الأخير بأنه خلال شهر رمضان الماضي، في إفطار دار الأيتام الإسلاميّة، قال السنيورة له إنه يريد أن يتحدّث بأمرٍ، فسأله المفتي: «في منزلي أم في منزلك؟»، فردّ السنيورة: نتحدّث جانباً في نهاية الإفطار. وهذا ما حصل. وقال السنيورة لقباني: لو أنك مفتٍ قوي، لألغيت موعد زيارة حزب الله. فردّ المفتي صارخاً: «أتريد أن تهشّم صورتي. هذه الدار مفتوحة للجميع». وبعد أن ذكّره بهذه الحادثة، قال المفتي للسنيورة: «معقول رئيس حكومة وتنسى».
بعد اللقاء، انقطع تيّار المستقبل عن المفتي. دخل الرجل إلى المستشفى وأجرى عمليّة جراحيّة، ولم يتصل المستقبليّون للاطمئنان إلى الصحّة، ولو شكلياً. وانتقلت عدوى المستقبل إلى السفير السعودي علي عوض العسيري، الذي لم يتصل للتهنئة بالسلامة والاطمئنان، وتصرّف بعكس ما تصرّفت دولته وبعض أمرائه، الذين استقبلوا منذ أيّام مسؤول العلاقات العامّة في دار الفتوى الشيخ شادي المصري. ثم غاب تيّار المستقبل عن احتفال عيد المولد النبوي الذي أقامته دار الأيتام الإسلاميّة، ولم يحضر حتى نواب بيروت.
 وقد تدرّجت العلاقة بين الطرفين قبل أن تصل إلى القطيعة، وبرز هذا في محطّات أساسيّة. فآخر مرة «ساير» المفتي تيّار المستقبل كانت قبل تكليف الرئيس نجيب ميقاتي. لاحقاً، بعد التكليف حاول تيّار المستقبل محاصرة ميقاتي في طائفته وتحويله إلى أمين الحافظ ثانٍ، لكن قباني سلّف ميقاتي كثيراً، عندما ساعده وأدخل عدداً من التعديلات على بيان المجلس الشرعي. ثم رفض المفتي عقد اجتماع للمجلس الشرعي بعد تسليم القرار الاتهامي في كانون الثاني 2011. وكانت الضربة القاسية، تعيين الشيخ شادي المصري مديراً للعلاقات العامة، والشيخ هشام خليفة مديراً للأوقاف، ثم استقبال وفد حزب الله، والسفيرين الإيراني والسوري.
لكن ما هي الأسباب التي تدفع المستقبل إلى الاستعجال في خوض معركة تعديلات النظام الداخلي لدار الفتوى، أو المعروف بالمرسوم 18؟ وللتذكير، إن تيّار المستقبل هو من سعى إلى تمديد ولاية المجلس الشرعي الحالي، الممددة أصلاً العام الماضي، من دون أن يستطيع هذا المجلس إقرار أي تعديلات.
بحسب عدد من المعنيين مباشرةً بهذا الموضوع، إن المعركة التي يخوضها تيّار المستقبل لها أسباب كثيرة. وتيّار المستقبل، برأسيه، سعد الحريري وفؤاد السنيورة، يُريدان وضع اليد بالكامل على دار الفتوى، في أسرع وقت، وهما لا يستطيعان انتظار انتهاء ولاية المفتي قباني، بعد سنتين. من هنا تأتي أهميّة التعديلات التي يطرحها السنيورة؛ إذ تسحب هذه التعديلات من يدي المفتي صلاحيّات إدارة الأوقاف والمؤسسات، وتجعل المجلس الشرعي حاكماً لنفسه. هي طائف سُني، كما شبهها أحدهم، طائف يُنهي صلاحيّات رئيس المؤسسة. أما الأسباب، فهي كالآتي بحسب المعنيين بالملف:
1 ـــ الوضع الإقليمي: يسعى تيّار المستقبل إلى تقدمة نفسه نموذجاً للإسلام المعتدل، القادر على إدارة شؤون لبنان والبلدان المجاورة، بنحو مشابه للنموذج التركي، أي نموذج الإخوان المسلمين. ويسعى تيّار المستقبل إلى تطويع دار الفتوى، لتفرد غطاءها على الحراك الذي يقوم به تيّار المستقبل على الحدود الشماليّة والشرقيّة للبنان في دعم الثورة السورية. ويُدرك تيّار المستقبل أن الغطاء الديني هذا أكثر من ضروري ليستطيع المستقبل القيام بما هو مطلوب منه. كذلك، يردّد الرئيس فؤاد السنيورة أمام المقربين منه أن النظام السوري سيسقط قريباً، وبالتالي فإنهم يجب أن يكونوا جاهزين لأداء الدور المطلوب منهم كاملاً، وهو إدارة لبنان وسوريا.
هنا، يعرف تيّار المستقبل تمام المعرفة، أن المفتي الذي رفض أن يُلغي موعداً لحزب الله، وأصرّ على استقبال السفيرين السوري والإيراني، لن يُقدم على توفير هذه التغطية. لذلك، إن المستقبل يُريد التخلّص من صلاحيّات المفتي، تمهيداً للتخلّص منه بنحوٍ أو بآخر.
2 ـــ الانتخابات النيابيّة: يعرف تيّار المستقبل تمام المعرفة الدور الذي قام به رجال الدين في المناطق في تغطية مرشحيه. وهو يدرك أن الغطاء الديني الذي كان متوافراً له، استطاع أن يحقّق له انتخابات مريحة في أغلب الدوائر. لذلك، يُريد المستقبل إعادة السيطرة على الدار لتطويعها وقولبتها بما يُناسبها، لتكون جاهزةً بعد سنة وأشهر قليلة لأداء دور المساند في انتخابات صيف 2013.
3 ـــ الأوقاف الإسلاميّة: يُدرك الرئيس فؤاد السنيورة تمام الإدراك، أن في الأوقاف الأسلاميّة الكثير من الأملاك التي لم تُستثمَر بعد، والتي يُمكن أن تدرّ الكثير من الأموال في حال استثمارها، وهو يسعى إلى أن يُكرّر تجربة سوليدير، بوضع اليد على العديد من هذه الأملاك والاستفادة الماليّة منها، وخصوصاً في ظلّ الأزمة الماليّة التي أوصلت السنيورة إلى أن يطلب مساعدات ماليّة لتيّاره من عدة جهات، من ضمنها الإمارات العربيّة المتحدة.
يختصر المتابعون لهذا الملف الأمر بعبارات قليلة: لا يستطيع تيّار المستقبل احتمال فترة أطول من دون الغطاء الديني، وهو الذي امتلك هذا الغطاء منذ تسعينيات القرن الماضي. ويستعمل تيّار المستقبل للوصول إلى هدفه كل الوسائل التي يراها متوافرةً أمامه، وقد بدأها، بمحاولته استمالة جميع العاملين في دار الفتوى من خادم الجامع إلى مفتي المناطق وموظفي الدار في بيروت، مستعملاً كل وسائل الترهيب والترغيب مع هؤلاء.

طمأنات متبادلة

زار وفد من حزب الله مفتي الجمهوريّة الشيخ محمد رشيد قباني. وعرض وفد حزب الله للمفتي موقفه مما يجري في سوريا، وتأكيده احترامه لخيارات الشعب السوري، ورفضه المطلق للتدخّل الأجنبي. وأشار الوفد إلى أن رهان البعض في الداخل والخارج على إضعاف المقاومة وإسقاطها بعد إسقاط النظام السوري هو وهم. كذلك وضع المفتي بصورة الصراع مع إسرائيل، والحرب الأمنيّة والمعلوماتيّة بين الجانبين. وأشار إلى أن الحزب مقتنع بأن الفتنة باتت وراء الجميع. ثم سأل المفتي وفد الحزب عن الطمأنات التي يحملها له، كما أشارت بعض وسائل الإعلام، فردّ وفد حزب الله، بأن أحداً لا يُعطي دار الفتوى طمأنات، بل إن المفتي هو من يُطمئن الجميع.
وتحدّث الشيخ عبد المجيد عمّار باسم الوفد بعد الاجتماع، ولفت إلى وجود توافق بالآراء «والجولة كانت لقراءة المستجدات في المنطقة محلياً وإقليمياً». وأشار إلى أن المفتي شدد على ضرورة تحصين الساحة الداخلية وتوطيد أواصر الوحدة لمواجهة التحديات، وتوطيد الأمن والاستقرار، حتى لا يتأثر لبنان بالأوضاع في المنطقة.
 

السابق
بيضون: السلاح أصبح مجرد أرقام
التالي
نحاس بين الواقعية والاستشهاد السياسي!