حزب الله يشرع في خطة مواجهة جديدة

بين الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله والخطاب الذي ما قبله يتراءى لكل راصدي الخطاب السياسي للحزب، أنه ينتقل من المرونة الى التشدد سواء على المستوى التطورات الداخلية، أو على صعيد التحولات الإقليمية، مما أعطى برهاناً ودليلاً على ان الحزب دخل طوراً جديداً مختلفاً في مقاربة الاحداث تخلى فيها عن كثير من تحفظاته، وبدأ بـ"هجوم" جديد ومسار حراك مختلف ستظهر الايام القليلة المقبلة عناوينه العريضة ومظاهره المختلفة على صعيد الحركة السياسية اليومية.
فعلى المستوى الاول الداخلي، كان جلياً ان السيد نصرالله شاء في خطابه أول من أمس أن يدخل، وربما للمرة الاولى، بهذه السعة وبهذا الإسهاب، في مضامين خطاب رمزَي قوى 14 آذار، أي الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع، متقصداً من ذلك أن يعطي الاول "سمة" انه هو الضامن للحيلولة دون وقوع فتنة سنية – شيعية، فيما سعى الى حرمان الثاني "سمة" ان يكون هو عصب هذا الفريق ولسانه الناطق والمتوعد.
وهذا النهج الجديد لدى رأس قيادة "حزب الله" ينطوي، لمن هم على مقربة من دوائر التحليل والقراءة لدى الحزب، على عنصر اساسي هو ان زمن "التراضي" أو الاستنكاف، والذي يمكن وصفه بشكل أدق زمن "المرونة" قد انتهى، وبدأ زمن المواجهة العملانية لأحلام أخذ فريق 14 آذار يروّج لها داخل قاعدته وعند أوسع مروحة في جمهوره عنوانها العريض ان دورنا وموقعنا الذي اضطررنا الى التراجع عنه في ماضي الايام والى القبول بفترة معينة من الضمور قد ولى الى غير رجعة، واننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من استرداد زمام المبادرة في الداخل وعلى مستوى المنطقة.
وكان الحزب يراقب بدقة الحالة التي عاشها رموز هذا الفريق، والناطقون بلسانه، والتي تمظهرت أكثر ما يكون من خلال:
– الإكثار من دعوة الحزب الى التعجيل في تسليم سلاحه المقاوم.
– التركيز على تنبيه الحزب الى ضرورة ايجاد سبيل لنسج تفاهمات مع الآخرين، والهبوط الى دائرة الواقعية والقبول بواقع التحولات الداخلية والإقليمية التي تملي عليه التعامل من واقع انه "مهزوم" والخارج من دائرة الرهانات المنكسرة والحسابات الخاسرة.
– في مقابل ذلك شرع هذا الفريق في حراك ميداني، فيه الكثير من التباهي، وكأن الامر صار له، وقد تبدى ذلك أكثر ما يكون في المناطق الشمالية المتاخمة للحدود مع سوريا وفي جزء من البقاع، بحيث تخلى هذا الفريق عن أردية التخفي والتقية، وجاهر بأنه جزء عضوي من منظومة التمرد على النظام في سوريا.
– على المستوى السياسي، بدأ هذا الفريق (14 آذار) يوحي بأنه يريد قواعد أو لعبة سياسية جديدة مع الآخر، ان لجهة شروط الحوار وسقوفه ومعاييره، وان لجهة الهوية السياسية للبلاد وعلاقاتها الخارجية.
وفي المقابل، سجل مراقبو سلوك "حزب الله" نوعاً من الانكفاء غير المعهود في حراكه وفي خطابه السياسي، خصوصاً في الأشهر الخمسة المنصرمة، أي مع بلوغ الاحداث في الساحة السورية ذروتها في التعقيد والتصعيد، وتحولها "حرباً على سوريا" يقودها "ائتلاف" من عواصم وقوى وجهات كانت حتى الامس القريب على طرفي نقيض.
وقد تجلى هذا السلوك "الانكفائي" لدى الحزب في جملة أمور أبرزها:
– استمرار سريان عدم اطلاق التصريحات واعطاء المقابلات الاعلامية على اركان الحزب ورموزه. – عدم مقاربة ملف الاحداث والتطورات العاصفة في سوريا من باب الدعوة الى عدم زج لبنان بالأزمة في سوريا من خلال عدم التدخل المباشر. وبمعنى آخر عدم جعل المسألة السورية "الخبز اليومي" لكلام رموز الحزب والناطقين بلسانه.
– على المستوى الحكومي، الكف عن التصدي مباشرة لمسائل ذات صلة بالوضع في سوريا.
– الاكتفاء بإلقاء الضوء على المعلومات والانباء التي كانت تتوارد عن تدخلات مباشرة في الحدث السوري تتم من مناطق حدودية محسوبة على تيار "المستقبل".
– المحافظة قدر الامكان على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، واداء دور الحافظ لتوازناتها والضابط لتناقضات مكوناتها، من منطلق أن وجودها، على علاتها وثغرها، ضرورة وطنية تقتضيها قبل كل شيء مسألة صون الاستقرار والحيلولة دون "فرط" الاوضاع او التفريط بحالة الأمن القائمة وإن بهشاشة. ولم يعد خافياً أنه في سبيل هذا المقصد، بادر الحزب الى طي ملف المحكمة الدولية رغم ما انطوت عليه من مخاطر بالنسبة اليه.

وفي المعطيات نفسها أن الحزب قرأ بتمعن أبعاد التغيرات التي حصلت في مصر وتونس وتوجهات حلفائه الاسلاميين بعد صعودهم الى سدة الحكم في هاتين الدولتين وسلوكهم السياسي حيال ما يعتبره الحزب ثوابت وقضايا استراتيجية وفي مقدمها قضية فلسطين، والصراع العربي – الاسرائيلي. ولا يخفي الحزب في هذا الاطار أنه اصيب بنوع من الصدمة حيال تصرف تنظيم "الاخوان المسلمين" وتوجهاتهم، وخصوصا ان لديه علاقات حوارية وقنوات تواصل واتصال مع بعض رموزهم ومنظريهم، فتوصل الى قناعة فحواها اولا أن اولوياتهم بلوغ السلطة، والقبض على زمامها حتى لو كان في ذلك مساومة على الثوابت ومد لليد الى دول كانت حتى الأمس القريب في مرتبة الاعداء والداعمين للأعداء.
وثانياً أن ثمة تباينات وصراعات في داخلهم قد تفضي عاجلاً ام آجلا الى انقسامات وانشقاقات حيال كل الأمور.

وباختصار، وجد ان هؤلاء باتوا في حالة انعدام وزن وارباك وضياع ستطول حتى تنجلي الأمور ويصيروا في حالة ثبات واستقرار وأخذ قرار.
ولم يعد جديداً القول ان هذه النظرة تكوّنت لدى الحزب ايضاً في ميدان العلاقة مع حركة "حماس" الحليف الأكبر الذي تربطه وإياه علاقات "نضالية وكفاحية" ممتدة في الزمان والمكان وفيها الكثير من الاسرار والقواسم المشتركة. ولا ريب ان الحزب رصد بمرارة حالات التشرذم الخفية التي يعيشها هذا التنظيم حيال الوضع في سوريا والعلاقة مع نظام شكّل الحاضن لكل فصائل المقاومة وقت عزّ النصير وضاقت بهم العواصم الأخرى.
وعلى مستوى الوضع في سوريا، لا شك في ان الحزب كان في حالة متابعة دقيقة له وقد تدرجت نظرته اليه من حالة القلق في بواكير الاحداث الى حالة الاطمئنان واليقين من ان النظام السوري في حالة تجذر وصلابة وممانعة قادرة على الصمود، ثم الانطلاق الى مرحلة المواجهة التي تجلت اخيراً لا سيما بعدما اتخذ الصراع هناك اشكالا متطورة، مع الاحتضان الروسي والصيني للنظام وتشكيل شبكة امان دولية له يستحيل اختراقها.

بالطبع كونت دوائر القرار في الحزب رؤية متكاملة لمسار الاوضاع ومآلها في سوريا، أباحت له بلا تحفظ تكريس تحالفه مع هذا النظام على قاعدة المبادئ لا المصالح واعلاء الصوت لدعمه ودرء الهجمات المتتالية عليه، واضعاً رصيده كله في هذا السبيل. وعليه، بدأ الحزب على لسان السيد نصرالله منذ الاسبوع الماضي "هجومه المضاد" على خصومه في الداخل والخارج، اذ رفع في الخطاب السابق (في ذكرى المولد النبوي) من وتيرة دفاعه عن سنده الاول النظام الايراني، والارتباط به الى حد الاستعداد للدفاع عنه، وبعث في الخطاب الاخير برسالة الى خصومه وحلفائه على حد سواء فحواها ان عليهم ان ينتظروا جديداً في اللهجة وفي الممارسة، وعليهم اولاً أن يكفوا عن المضي قدما في رهاناتهم لأنهم "ليسوا أهل ثقة". 

السابق
تحالف بيروت والقوّات والزفّة القادمة
التالي
وفيات مدمني الكحول تفوق ضحايا الايدز والسل