عاملات أجنبيات يعشن الحلم

بجسدها النحيل تقف متكئة على درابزين شرفة واسعة، تسطع عليها الشمس منذ ساعات الفجر الأولى، حيث تستيقظ قبل الجميع. لدى ماري في هذا اليوم، كسواه من الأيام، أعمال كثيرة لا بد من إنجازها في هذا المنزل الكبير، هذا عدا عن التفكير في تحضير الطبخة التي يحبها الجميع وتتوافق مع الضائقة الاقتصادية التي يمر بها رب المنزل.
ماري فتاة بنغلادشية تجاوزت الثلاثين من عمرها، حضرت إلى لبنان منذ أكثر من سبع سنوات، ومنذ ذلك الحين وهي تعمل في هذا المنزل وتعيش مع العائلة نفسها المؤلفة من «المدام والمستر» وأربع بنات، اثنتان منهن في عمر ماري تقريباً، واثنتان في العشرينيات، والخمس جميعهن «تحت نصيبهن». «ماري ما بدك تروحي على بلدك تتزوجي؟». تجيب: «ما في شباب للزواج، لا بلبنان ولا ببنغلادش».

حلم ماري بتأسيس عائلة ضاع بين مكاتب وقوانين العمل في لبنان وبنغلادش. سبع سنوات من العمل والاغتراب في لبنان، وخمس سنوات في بنغلادش قضتها بعيدا عن منزل ذويها كعاملة عند إحدى العائلات الأثيوبيات الأكثر ثراء، وهذه العائلة هي التي سهلت لها سفرها إلى لبنان.

لا تعلم ماري ما معنى عيد الحب. «ما في ببنغلادش»، ولا تبالي اليوم لا بزواج ولا بعائلة. «تاركتها على الله»، تقول مستعينة بتعبير لبناني حفظته مع غيره من المصطلحات التي ترددها فتيات المنزل الأربع. «بس يجي النصيب بتجوز»، ففي بنغلادش أيضا هناك نصيب يحدد مصير كل منّا.
وإذا كان الغالب على عيد الحب ربطه بالحبيب فقط، فإن ماري تفتقد أيضاً حب الأهل والأصدقاء. هي لم تر ذويها منذ أكثر من عشر سنوات، فماذا بقي من حب أهلها وكيف يتجسد ويتبلور حب فيه كل هذا البعد؟ لا تنتبه ماري كثيرا لهذه المعاني، همها الوحيد اليوم هو تجميع ثمن قطعة أرض. وهذا الهدف يحتاج إلى خمس سنوات عمل إضافية لتجميعها، إلاّ إذا ارتفعت الأسعار. وإن تحقق لها ذلك، ستعود ماري إلى بلدها لتبني منزلا لها. فمتطلبات الزواج في بنغلادش أصبحت جميعها ملقاة على عاتق الفتيات، خاصة اللواتي يعملن خارج البلاد. «أول شي بقلك العريس عندك أرض عنك بيت أو ما في زواج».تعمل ماري وتشقى كي تقدم لزوجها المستقبلي هدية: المنزل والأرض وفوقهما عمرها الضائع. قلب ماري خال من مفاهيم الحب في بلادنا: «أنا عندي أمل ما بعرف إذا بيتحقق، إني حب وأتجوز». ماري الآن هي عاشقة للأمل، أما عزاؤها الوحيد فهي الذكريات.
حال ماري ربما أقل صعوبة من وضع سلمى التي جاءت من سريلانكا حالما أنجبت طفلتها. تركت سلمى طفلتها مع والدتها وهي لم تبلغ الشهر بعد، وانتقلت مع زوجها إلى لبنان. لكن ظروف العمل فرضت عليهما الافتراق على أرض لا تتجاوز مساحتها الـ10452 كيلومترا مربعا. ذهب الزوج للعمل في صور، في حين ذهبت هي للعمل في منطقة البقاع. «لما وصلت على البيت أنا كنت مريض لأن الحليب بعدو بصدري». اعتنت صاحبة المنزل بسلمى إلى أن شفيت وراحت تزاول عملها.
تواصل سلمى مع زوجها اقتصر على المناسبات، «خمس سنين ما بقدر شوف زوجي، مدام ما بتخليني لأن بتخاف إرجع حبلى». خمس سنوات يعيشان في البلد نفسه، إلا أنه لا يستطيع أن يراها إلا قليلا. مضت الأيام وهي تعمل وترسل المال لوالدتها في سريلانكا، أما هو فيعمل ويصرف على نفسه من دون أن يرسل أي مال إلى بلاده، لتكتشف بعدها انه تزوج من عاملة أخرى.

هم سلمى اليوم هو تجميع المال للعودة سريعا إلى بلادها. هي في حالة سباق مع الزمن، تخاف من أن تغلبها عاطفتها ومشاعرها، فتتجاهلها كي لا تقع في فخ الحنين، والحب الوحيد الذي يعنيها اليوم هو حب ابنتها التي تأمل بلقائها قريباً.
غالباً ما تكون حال العاملات في المنازل، كحال ماري وسلمى. فهن ممنوع عليهن الخروج إلا نادرا. لا عطلة أسبوعية للخروج لبناء حياة اجتماعيــة خاصة، بعيدا عن تفاصيل حياتهن السـابقة في بلادهن. ولكن من ناحية أخرى نجد اللواتي يتخطين كل هذه العـقبات ومعها «الخطوط الحمر» التي يفرضها المجتمع، لإقامة علاقة حب. هذه هي حال روبي التي كانت تعــمل عند سيدة كبيرة السن، وتعيش وحيـدة بعدما استــبدل الأولاد عاطفتهم تجاهها بعاملة منــزل تؤنس وحدتها. ولم يكن بمقـدور هذه السـيدة التــنقل بسـهولة، لذا كانت روبي تقوم بكـافة الأعمال، ومن بينها التــسوق.
ذات مرّة تعرفت روبي على شاب من جنسية أجنبية، ووقعا بغرام بعضهما البعض. ولأن لا منزل يلتقيان فيه بعيدا عن أعين الناس، اتخذا من شقة السيدة مكانا للقاء يجمعهما… إلى أن اكتشفت صاحبة المنزل الأمر، فعمدت إلى استدعاء ابنها لمعاقبتها. أما العقاب فكان استثنائيا هذه المرة: فرض عليهما الرجل أن يتزوجا!

لباتي قصة تختلف عن الأخريات. فهي تخطت كل الظروف الاجتماعية والمعيشية، وقررت أن تبحث عن حبها في لبنان. «ليه ما بدي حب، أنا ساكنة لحالي وبتعب كثير بالشغل، ليه ما يحب وإتجوز حتى لو كان لبناني». باتي التي تعرفت على زوجها في مكان عملها في إحدى شركات التنظيف، وقعت في حبه منذ اللحظة الأولى، وراحت تتقرب منه إلى أن تزوجته «خطيفة» من دون علم والديه.
لا تستطيع باتي الاستمرار من دون رجل يحميها بالدرجة الأولى كما تقول، خاصة أنها تعيش وحيدة، وهي لن تنتظر العودة إلى بلادها كي تجد الحب، «لأنه أصلا أنا ما فيني أترك هون، إذا فليت من وين بجيب مصاري».
وإذا كانت باتي وجدت الحب في بلاد الغربة، فإن كثيرات سواها يعشن في حالة من الانفصال الدائم. منهن من تخطين كل هذا وقررن الانغــماس في نمط حياة البلاد حتى النهاية، ومنهــن من بقين عالقــات في ذكريات بعيدة وآمال ربما تتحقق.. وربما لا.  

السابق
مصارع… من دون يدين
التالي
إعمار غزة الحلم المتبدد