أسئلة الانسداد

منذ أن بدأت تطبيقات «أوسلو» كانت توقعات الكثيرين، أن نصل في نهاية المفاوضات على «الوضع النهائي» الى طريق مسدود، بعد أن نكون خسرنا نقاط ارتكاز منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج العربي، بفعل إفراط في التفاؤل، جعل القيادة الفلسطينية تسارع الى تفكيك جسم «المنظمة» ونقله الى بٌنية السلطة التي قامت بموجب «أوسلو»!

كانت فكرة «العودة» المحببة، هي عنصر التعليل الأهم، عند الحديث عن وجاهة الانتقال الكامل، من مربع «المنظمة» الى مساحة السلطة. غير أن المسكونين بهواجس ومخاوف شتى، وكل الذين مارسوا الرياضة الذهنية، فتخيلوا سياقات تطبيق الاتفاقات ومآلاتها وخواتيمها؛ لم تفارقهم كوابيس تتعلق بلحظة الوصول الى الأفق المسدود. في المقابل كان هناك مبتهجون متفائلون، تمتعوا بالسنوات الأولى من قيام السلطة، واتخذت أشكال حياتهم وصياغات لغتهم، سمات وصياغات الحياة واللغة الراسختين، غير القابلتين للنقض أو للاهتزاز!

المتخوفون استندوا الى فرضيتين ثبت أنهما صحيحتان: الأولى صعوبة التوصل الى حل متوازن ومقبول فلسطينياً، لمسألتي القدس الشرقية وحق اللاجئين في العودة، حتى في حال التسليم الافتراضي، بأن مسائل الحدود والمياه والمستوطنات، يمكن أن نصل الى حلٍ مُرضٍ بشأنها. أما الفرضية الثانية، فهي كون الاتفاق و»عودة» قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وكادرها، يخضعان لقيود وشروط، تضمن للطرف الإسرائيلي سهولة إدخال «العودة» والسلطة على الأرض، الى فخ مُحكم الإغلاق، ووضعهما في المأزق العسير. وفي ذلك السياق، جرت تدابير لا حصر لها، جعلتنا عُرضة لضغوط الجهات الممولة والمانحة، وفي مواجهة شروط الاحتلال العسكري.

في مساواة ذلك، كانت هناك مجموعة أوهام، تعاطاها المتفائلون، منها أن الجهة الرئيسة الراعية للعملية السلمية، وهي الولايات المتحدة، حسمت أمرها وتعتزم حماية العملية السلمية وإلزام إسرائيل كدولة، باحترام ما وقّع عليه رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، على قاعدة أن التعاقدات الخارجية للدول، لا تتأثر بتبدل الحكومات. ومن بين هذه الأوهام، أن انقلاب أية حكومة إسرائيلية لاحقة، سيُواجه بموقف عربي ضاغط في الاتجاه المعاكس وعلى كل صعيد. غير أن الذي حدث، هو أن حكومات إسرائيل اللاحقة، انقلبت على الاتفاق دون كابح، وأن أميركا انقلبت معها، وبالتالي اكتملت عناصر الفخ الذي وقعنا فيه!

السلطة لا يمكن أن تستمر في ظل هذه الأوضاع. هكذا يقولون. لكن الدعوة الى حلّها، تلقى جواباً من آخرين، يرون في هذه السلطة محصلة لنضالات ودماء، وهي من حصاد الانتفاضة الطويلة الأولى، ولا يصح التفكير في حلّها. والبعض يقول، إننا سنواجه وضعاً كارثياً إن اقدمنا على حل السلطة، لكي نضع على كاهل إسرائيل عبء الاحتلال وأكلافه، لأن المحتلين القابعين وراء الجدار، لن يعودوا الى احتلالنا، وإنما سيلتزمون حدود جدارهم ومستوطناتهم وما يعتبرونها نقاطاً استراتيجية؛ ثم يتركوننا في حال الصوملة والدعاء بفعل وضعية اللا تشكّل الكياني. لقد أوقعونا في فخ السلطة التي بلا سيادة، بينما لن يقعوا في فخ إعادة الإحتلال لتحمل الأكلاف وتعزيز فرضية حل الدولة الواحدة!

لا مناص من الاستمرار في الصمود، ومن دفع العمل السياسي والشعبي الى الأمام. وعلى هذا الصعيد، نُقر بأن هناك صعوبة في اعتماد المقاومة الشعبية السلمية في غزة والضفة، لأن مثل هذه المقاومة لا يُحفّزها ولا يوفر عناصرها الموضوعية الكافية، إلا واقع الاشتباك على الأرض. أي وجود المحتلين الدائم، بجنودهم وعرباتهم العسكرية، بيننا في الشوارع والأزقة والحارات. وهذا أمر باتت اسرائيل تتحاشاه ما استطاعت. ففي الضفة، هناك تقاطعات طرق أو خطوط تماس، بين الجنود والناس، والمحتلون يعتمدون منهج الهجوم والإغارة، ثم العودة الى ثكنات يتموضعون فيها، وفي حال «مقاومتهم» بالتظاهر دون عنف، سيواجهوننا بالنار. وفي غزة، يتعين علينا وفق فرضية المقاومة الشعبية السلمية، أن نتوجه الى الحدود، وعندئذٍ سيرى المحتلون في هذا الشكل من «المقاومة» هجوماً «عدوانياً» وسيواجهوننا بالنار. وعلى الرغم من ذلك، هناك نقاط تصلح للمقاومة الشعبية غير المسلحة، لكنها ستكون مرتبطة بظروف ومناسبات مواتية، قوامها الاحتجاج على فعل استيطاني، أو على مصادرات للأرض أو هدم للبيوت. لكن هذا الخط «المقاوم» لن يكون حاسماً ولا مؤثراً!

الحاسم والمؤثر، هو أن نركز على عملية البناء القوي والجاد والرصين لبُنية الحركة الوطنية وسلطتها وثقافتها، وأن نتخلص من عيوبنا، وأن نعزز صمودنا، وأن نتوسع في مفهوم «المقاومة» السلمية والعمل على أن تصل الحركة الوطنية الفلسطينية الى حال التمكن والتماهي مع المجتمع، من خلال تخليق أنماط العمل العام الراشد المحترم، وملاحقة الظواهر الشائنة في السلطة و»المنظمة» واستعادة ثقة الجماهير بأطرها الحكومية والحزبية والنضالية، استعداداً لمواجهة تحديدات مقبلة.
فمثلما تستوجب المقاومة المسلحة، بُنية ملائمة لممارستها؛ فإن المقاومة السلمية الشعبية، تستوجب بُنية مشابهة! 

السابق
شفاه جذّابة..
التالي
جعجع: من يريد احترام الناس عليه ان يحترم غيره أيضا