عولمة لبنان ولبننة العالم

تدل اشتباكات طرابلس التي تتجدد منذ زمن بين جبل محسن وباب التبانة على حالة نموذجية مصغرة عن الواقع اللبناني كله. خط تماس طائفي يتقاتل عليه الفقراء، بل الأكثر فقراً، تديره قوى سياسية وتستخدمه لأهداف لبنانية بعيدة غير منفصلة عن النزاعات الإقليمية.
يتقاتل الفقراء من دون أن تكون لهم مصالح مباشرة في تغيير واقع يخص عيشهم وحياتهم ومن دون أن يكون بينهم تعارض في نمط الحياة اليومية. يحرّض هؤلاء حافز له علاقة بتوازن السلطة الطائفية في البلد ويغذي مشاعرهم إرث ثقافة مذهبية.
يعتقد المتقاتلون أنهم يساهمون بشكل أو بآخر في انتصار أو نصرة متغيّر إقليمي يوفر شروطاً أو بيئة أفضل لطموحهم أو لموقعهم ودورهم في المعادلة الداخلية. في هذا النزاع تتجسّم على نحو مصغر صراعات كبرى. يجد ابن هذه المدينة المهمّشة اقتصادياً أن له رأياً في الصراع السني الشيعي، في الحرب العربية الإسرائيلية، بسلاح آخر على الطرف الآخر من البلد وفي النظام الإقليمي. اللبنانيون في هذا النموذج من النزاع الأهلي العنيف لا يعترفون بمرجعية الكيان والدولة والنظام والمؤسسات الأمنية الشرعية ولا يعتقدون أن أولوياتهم متجهة لتطورهم وتقدّمهم الاجتماعي بل لانتصار «سياسي» معنوي يؤدي إلى قوتهم كجماعة وليس كمواطنين. هذه الصورة هي نفسها موجودة في كل بيئة وجماعة ومنطقة، وفي تفكير القيادات السياسية وسلوكياتها.
يكشف هذا الواقع عن خلل عميق في الاجتماع السياسي اللبناني. ليس بين اللبنانيين (هذا التعبير المعنوي الشامل) مشتركات كافية وقواعد ضامنة وملزمة لكي يعيشوا معاً كلبنانيين، بل هم ما زالوا يتصرفون على أنهم جماعات طائفية أو حزبية تغطي بنية اجتماعية قبلية، ويتنافسون في سبيل إيجاد توازن قوى بينهم ليكون لهذه أو تلك من الجماعات الحصانات والضمانات والامتيازات.
يقوم النظام السياسي أو الصيغة الشرعية القانونية على إدارة هذا النزاع بدلاً من حله لأن نخب الجماعات السياسية والاقتصادية يوافقها هذا النوع من الجمهور وهذا النوع من النزاع كي تستثمره سلطة ونفوذاً يعزز موقعها وحصتها في السلطة المركزية حيناً، وعلى جغرافيتها الطائفية والسياسية حيناً آخر.
 لا يملك اللبنانيون وسائل لكي يعبّروا عن أنفسهم إلا وفق هذه الآليات فلا يوجد في نظامهم مكان لغير هذه المعطيات الطائفية. إنتاج السلطة الشرعية أو إنتاج مؤسسات التمثيل الرسمي والشعبي التي لا تسمح باستفتاء الجمهور على ما هو خارج التوازن الطائفي. نحن لا نعرف بالضبط ماذا يريد اللبنانيون (الملايين الأربعة) ولا نعرف ماذا يريد اللبنانيون كمواطنين منتجين ومستهلكين وطلاب علم ومرضى وأصحاب هموم اجتماعية، بل فقط نعرف هوياتهم السياسية المفترضة المصادرة أصلاً بقرار مؤسساتهم الدينية وزعاماتهم السياسية والنخب المتربعة على أعلى درجات سلم الثروة والسلطة. خلال هذه التجربة اللبنانية نعرف وقائع ثابتة عن أن الجماعات الطائفية بدّلت مواقفها وخياراتها وأدوارها ووظائفها. فلم تكن لهذه الجماعات في المستوى التاريخي مواقف «جوهرانية» أو مسارات خارج التاريخ والجغرافيا والتطورات الاجتماعية. كما لم تكن لها هويات مغلقة. ففي كل طائفة شكل من التعددية يظهر أو يختفي بحسب الظروف وقد طرأت على هذه الجماعات الكثير من عوامل التغيير. من بين أهم الظاهرات التي عرفها اللبنانيون أنهم أنشأوا أحزاباً حديثة وانتموا إلى تيارات فكرية وثقافية غير دينية وغير طائفية وأنهم أنشأوا مؤسسات مهنية ونقابية مدنية وأنتجوا ثقافة وأدباً وفناً وعلماً خارج المشهد الطائفي وتمردوا عليه وقاوموه وحطّموا قداسته وهيبته وكانوا رواد نهضة وأبدعوا وغيّروا في طبيعة بلادهم وحفروا فيها الكثير من الابتكارات واستثمروا في بيئتها.
طرأت على اللبنانيين موجات من التفكير ومن السياسات الوافدة فشوّهت الكثير من تقاليدهم وحطّمت الكثير من مكتسباتهم وعطّلت تطورهم الاجتماعي والسياسي وفرزتهم مجدداً على خطوط انقسام لم تكن موجودة من قبل. نحن الآن في خط معاكس لتطور الوطنية اللبنانية تشدنا تيارات سياسية وقوى في خلاف منجزاتنا وتهيمن على إرادتنا جماعات هي مزيج من سلطات المال والسلاح والعنف والإيديولوجيا المتنافرة والمتآلفة في آن واحد لقطع تطور المشروع اللبناني، مشروع الدولة والمواطنة.
في كل ما يجري الآن يغيب المشروع اللبناني (العربي تلقائياً والإنساني حتماً) لمصلحة ظاهرات شاذة تتجلى في خطاب غير عقلاني فئوي متخلّف غير توحيدي وذي وظيفة نزاعية يسعى إلى الهيمنة تحت لافتات غير صادقة تهدف إلى توطيد قوة وسلطة الجماعات بمعزل عن وجود الآخر والاعتراف به. هنا يظهر اللبنانيون ويخادعون أنفسهم في ذلك أنهم شركاء في مصير المنطقة والعالم في حين أنهم بكل مكوّناتهم وقواهم ليسوا إلا أتباعاً لقوى خارجية تتدرّج في القوة والنفوذ من الإقليمي إلى الدولي وهي التي تملك القدرة والقرار والخيار. يعيش اللبنانيون هذا الوهم على أنهم شركاء حتى لا نقول أصحاب قرار في مصائر منطقة أُلحقت بصراعات دولية كبرى وباتت مسرحاً لها.
لا يطعن ذلك في الدور اللبناني أو الفعل اللبناني إلا لأن لبنان ليس دولة تعكس هوية شعب وتعبّر عنها، وليس شعباً موحداً وهو يغامر المرة تلو الأخرى في أن يبالغ في دوره أو يضحّي بمصالحه ويقامر في وحدته في ما يشبه سياسة التحدي والنكايات والكيد وهو لا يوفر لنفسه الحد الأدنى من وسائل العيش والسلامة.
مشكلة لبنان أن جماعاته، وهي طوائف كلها صغيرة بكل المقاييس، تفرض خياراتها على الآخرين ولا تحسب حساباً للعيش معاً أو للشراكة في ما تقرره أو ترتجيه. فليس في لبنان «شركة ومحبة» وليس في لبنان «توافقية» ولا وطنية ولا مشروع إصلاح، بل «أحزاب» و«عصبيات» منتفخة بالأوهام ومسكونة بلعبة السلطة.
لا نظن أن اللبنانيين استفادوا من تجاربهم، لكننا معنيون بالقول لهم، جماعات وأفراداً، إن ما يجري حولنا أكبر بكثير من أن يتوقف على مساهمتنا فيه، خاصة أننا لم ننجز بناء دولة ولم ننجز بناء وحدة وطنية. إن ربط لبنان بنزاعات المنطقة مجدداً وخاصة من باب الأمن والنزاعات المسلحة ليس إلا وصفة لتفكك هذا البلد.
فهل فات أوان «الصحوة اللبنانية»!؟ 

السابق
تأزم الحل السياسي في سورية
التالي
جنبلاط: ادين موقف لبنان الرسمي في المجلس العربي