د. مصطفى الدندشلي في ذمة الله

علمٌ من اعلام صيدا رحل، هو الدكتور مصطفى الدندشلي (عن 80 عاماً) مغمضاً عينيه امس (الاحد)، حيث ووريّ جثمانه الثرى في مقبرة صيدا الجديدة في سيروب.
برحيل الدكتور مصطفى، تخسر صيدا علماً من اعلامها، ويخسر المثقفون واللبنانيون والعرب ركناً اساسياً، كان له دورٌ رياديٌ طليعيّ في العمل الجماهيري مع القضايا العربية، وفي مقدمها قضية فلسطين، وفي حفظ الكلمة تعليماً ومقالة وكتاباً، وندوةً ومحاضرة، خصوصاً ما يتعلق منه بمسقط رأسه مدينة صيدا.
وفي وقت غاب فيه الكثيرون وتلهو بمتاع الحياة، او التعصب السياسي، فيما الدكتور مصطفى كان يتخذ من الثقافة والأدب منبراً للتطرق الى كافة النواحي الحياتية والاجتماعية والصحية والاقتصادية والتعليمية والثقافية، وفي الطليعة القضايا التنموية من خلال تنظيم المحاضرات والندوات في وقتٍ عزّ فيه إقامة مثل تلك النشاطات، فكان يستضيف متحدثون يمثلون مختلف الآراء، ليس بهدف إقامة نشاطٍ فقط، بل لإلقاء الضوء على واقع وتشريح المشكلة وإقتراح العلاجات الناجعة، ومنها ما أخذ به – وإن لم يُنسب من أخذ ذلك الى الدكتور مصطفى، ومنها ما لم يأخذ به ليس إقتناعاً، بل لحسابات ربما سياسية.
لقد إعتمد الدكتور مصطفى الحوار سبيلاً وحيداً، حيث كان يرفع الصوت ويطالب، لأنه كان متيقناً ان الحوار هو الأجدى والأنفع وخصوصاً عندما تُطرح البينة.
الدكتور مصطفى أسس «المركز الثقافي للبحوث والتوثيق»، منذ العام 1977 وهذا بعرفه ليس معناه الإكتفاء بالتواجد أثناء النشاطات، والقيام فقط بالزيارات، بل كان هو رئيس المركز، ومن يقوم بصياغة الخبر وكتابته بخط يده وتصويره وطباعة الصور وتوزيعها على وسائل الاعلام بمعاونة عاطف زيتوني، ولم يكن الإعلام قد انتقل بعد الى مرحلة التكنولوجيا.
أكثر ما كان يحز في نفسه ان ما بناه وأرساه في «المركز الثقافي للبحوث والتوثيق» هو إصدار نشرة أو كتابٍ يوثق الندوات والمحاضرات، لأن ذلك يحتاج اى تكلفةٍ مالية، فكان يواجه بالمشكلة، حيث كان يعتقد المحسنون أن التبرعات يجب ان تذهب الى عمل الخير وفق مفاهيم معينة، دون الإلتفات الى النواحي الثقافية، علماً بأن الكلمة وتوثيقها وإصدارها في كتاب يؤرخ ويوثق الأحداث ومراحلها، أمرٌ هام، خصوصاً أن البعض إكتشف أهمية ذلك في مواجهة ما يبث من «فيروسات»، وسعى إلى تزوير التاريخ، بل سرقته.
رحل الدكتور مصطفى ولم تتحقق العديد من احلامه، بأن يرى مرفأ صيدا متطوراً وأن يُزال جبل النفايات عن كاهل المدينة، وأن لا تمحى تلك الصورة الراسخة التي وعى عليها منذ طفولته، وهو يشاهد أمواج البحر تتحطم عند رمال الشاطئ الصيداوي.
تعرفت إلى الدكتور مصطفى، منذ اكثر من ربع قرن، وجدت فيه الاندفاع والحماس والتفاني من أجل العمل الذي يُفكر بإنجازه.. وكثيراً ما كان يزورني أو يتصل طالباً معلومة أو خبر، أو الإستعانة بأرشيف، لأنه على حدّ ما كان يقوله: «لديكم أرشيف هام، وجريدة «اللواء» هي أكثر وسائل الإعلام التي كانت تنشر لنا أخبارنا وما يتعلق بصيدا أو الجنوب».
وعندما أصدرت كتابي زارني مهنئاً، وعندها عرفت أكثر معنى وأهمية الكلمة والكتاب، ولماذا كان الدكتور مصطفى يغيب لفترات طويلة، وعندما نسأل عنه، يُقال أنه في عزلة من أمره، فعلمنا أنه يكون حينها يعد بحثاً أو ينجز كتاباً.
أصدر الراحل عدد من كتب ودراسات حول مشاريع صيدا، وآخر ما أنجزه كتاب بعنوان «أحاديث في الفكر القومي والماركسية، والسياسة الدولية «الصادرة عن «منتدى المعارف» ووقعه في «معرض بيروت العرب والدولي الـ 55» الثلاثاء 13 كانون الاول 2011.
لقد إمتلك الدكتور مصطفى أرشيفاً عن فتراتٍ هامة جداً من تاريخ صيدا والمقاومة والقضية الفلسطينية، وهو كنزٌ صيداويٌ قد لا نجد له مثيلاً، وبحاجة الى مكننة مع وجود التكنولوجيا الجديدة، ويكون الوفاء للدكتور مصطفى ليس بمنحه وساماً، لأنه إكتسب ذلك عن جدارة من خلال نضاله الجماهيري والتربوي والأكاديمي في المدارس والثانويات والجامعات وفي مختلف ميادين الثقافة، بل بحفظ هذا الأرشيف للأجيال المقبلة من أجل حمايتها من محاولات تهميشها وبث «فيروسات» تشوه الحقيقة!.
مطلوبٌ من الغيورين والحريصين الإسراع بإنجاز ذلك حتى لا يُجحف مجدداً بحقه بعد رحيله، بعدما اجحف كثر بحق الدكتور مصطفى بحياته، بعدم دعم المركز لحساباتٍ تنطلق من أهداف وغايات، ومنها ما هو خاص او ما يتعلق بعدم المبالاة بالثقافة التي نحن بأمس الحاجة اليها وخصوصاً في ظروفنا المفصلية.
رحم الله الدكتور مصطفى الدندشلي «أبو عمران» وأسكنه فسيح جنانه، وألم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان..  

السابق
تسليم وتسلم بين الكتيبتين الاسبانيتين
التالي
تيم الحسن انفصل عن زوجته الممثلة ديما بياعة