التغييرات الدراماتيكية المتبلورة في مصر

عشية الذكرى السنوية الاولى لثورة 25 يناير عقدت الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب الاول في العصر ما بعد مبارك. الخلافات بين النواب حديثي العهد بالنسبة لادارة الجلسة، انتخاب رئيس المجلس وصيغة القسم، شهدت على التغيير الدراماتيكي والشامل الجاري في مصر. فلأول مرة منذ عشرات عديدة من السنين يحتل مقاعد البرلمان مندوبون انتخبوا في انتخابات نزيهة وحرة. ولرئاسة المجلس انتخب د. سعد الكتاتني، من كبار رجالات الاخوان المسلمين.
في ختام الحملة الانتخابية الطويلة والمعقدة من ناحية اجرائية انتخب 498 نائبا للبرلمان 2012. وانضم اليهم عشرة نواب (منهم ثلاث نساء وخمسة اقباط) عينهم المجلس الاعلى للقوات المسلحة، الذي يدير شؤون الدولة في المرحلة الانتقالية. حزب الحرية والعدالة الذي تنافس عن الاخوان المسلمين فاز بـ 216 مقعدا. الحركة التي رمزت على مدى عشرات السنين لمعارضة النظام تحولت دفعة واحدة الى الحزب الاكبر في مصر. مفاجأة كبيرة وفرها حزب النور السلفي الذي بعث الى المجلس بـ 109 مندوبا. الحزب الليبرالي القديم، حزب الوفد، يحتفظ بـ 41 مقعدا. الائتلاف المصري الذي يمثل أحزاب اليسار ويتماثل مع المعسكر العلماني يمثله 34 مندوبا. اما باقي المقاعد التي تتوزع بين نحو 12 حزبا ومندوبا مستقلا.  
مجلس النواب الحالي يعكس بشكل أمين علاقات القوى السياسية الجديدة في مصر، وبالنسبة لبرلمانات سابقة فإنه يمثل المجتمع بشكل أكمل. ومع ذلك، ففي «برلمان الثورة»، كما يسمى هذا في مصر، توجد 12 امرأة فقط. مجلس النواب لا يضم أيضا تمثيلا مهما لمجموعات «الشباب» الذين اشعلوا وقادوا الانتفاضة المدنية ومنذ اسقاط نظام مبارك يديرون حملة لنقل السلطة فورا وصلاحياتها من الجيش الى مجلس النواب. في أثناء الجلسة الافتتاحية ومع أن العديد من النواب مجدوا دور «شباب الثورة» ولكن في نفس الوقت كان نشطاؤهم يتظاهرون في ميدان التحرير. في برقية بعثت بها حركة 6 ابريل الى منتخبي الامة جاء ان «الشعب انتخبكم لتمثيله في البرلمان ولهذا فان عليكم ان تحققوا مطالبه ومطالب الثورة. ودعي النواب الى مطالبة المجلس العسكري بان ينقل فورا صلاحيات ادارة الدولة الى البرلمان التي يحتفظ بها حتى انتخاب رئيس مدني. مجموعات اخرى تطالب البرلمان باعادة فحص القوانين التي نشرها المجلس العسكري وتشكيل لجنة تحقيق فورا لفحص مسؤولي الجيش عن قتل المتظاهرين. هذه الدعوات تدل على أن قوى من أوساط المجتمع المدني يعتبرون برلمان الثورة عنوانا رئيسا لرفع مطالبهم. في ميدان التحرير هناك من يعلق منذ الان المسؤولية عن عدم تحقيق أهداف الثورة، ليس فقط على المجلس العسكري بل وعلى الاحزاب وعلى رأسها حزب الحرية والعدالة.

النقاش الجماهيري في مصر في مسألة الاخوان المسلمين والحكم مستمر منذ نحو ثمانين سنة، وقد تسارع في أعقاب انجازات هذه الحركة غير المسبوقة في الانتخابات للبرلمان في 2005. في الجولة الاولى من تلك الانتخابات فاز ممثلوها بـ 88 مقعدا، ولكن فيما بعد شوش النظام اجراءات الانتخابات ومنعهم من تحقيق انجاز أكبر بكثير. سياسة اليد الحديدية ضد الحركة وجدت تعبيرها في اعتقال العشرات من كبار مسؤوليها، تقديمهم الى المحاكمة العسكرية ومعاقبتهم بشدة. في الساحة العامة أدار مؤيدو النظام والكثيرون من أوساط المعسكر الليبرالي حملة للتشهير بصورة الاخوان المسلمين. وأسهم الانتقاد التي اطلقت نحوهم صدها الاخيرون من خلال نشاط برلماني قلل من الانشغال في المواضيع الدينية ونشر تصريحات ووثائق طرحت مواقف براغماتية في مواضيع مدنية، اقتصادية وسياسية. د. محمد السيد حبيب، نائب المرشد العام نشر مقالا مشوقا تحت عنوان «ماذا اذا وصل الاخوان الى الحكم؟»، في البداية شدد على أن «وصول الاخوان الى الحكم ليس واقعيا، على الاقل في المستقبل القريب؛ ولكن على فرض أن هذا سيحصل حقا – فما هي رؤيتنا بالنسبة لهذا الحكم؟» اولا، الحركة ستؤيد اقامة نظام يقوم على اساس انتخابات حرة. البرلمان المنتخب يحث الى الامام «دستورا جديدا يعرف النظام السلطوي (جمهورية برلمانية ديمقراطية)، والعلاقات بين السلطات والعلاقات بين السلطة والشعب، بما في ذلك تقييد فترة ولاية رئيس الدولة وصلاحياته». الموضوع الاول الذي ستعنى به الحكومة سيكون «اتاحة الحريات العامة». وستقوم السياسة الاقتصادية على مبادئ اقتصاد السوق، ولكنها ستدعم القطاعات الضعيفة في المجتمع. على رأس سلم الاولويات الوطنية ستكون مكافحة الفقر والبطالة، تخفيض التضخم المالي، ايجاد حل لمشاكل السكن، المواصلات والصحة. جهاز التعليم سيحظى بالاولوية في تخصيص المقدرات.
واليوم مطالبة قيادة الاخوان المسلمين ليس فقط بتحديث مواقفها في المواضيع التي اشير اليها آنفا، وفي مواضيع كثيرة اخرى، بل بالاساس الملء بالمضمون وبالافعال لشعارهم التاريخي «الاسلام هو الحل». حزب الحرية والعدالة مطالب بان يبادر الى خطط عملية لمواجهة جملة المشاكل الملحة وعلى رأسها اعادة النظام والامنن بناء الوضع الاقتصادي، والصراع الشامل ضد الفساد السائد في القطاعين العام والخاص على حد سواء. وكحركة اصلاح تقوم على اساس التفسير الديني البرغماتي، فإن حركة الاخوان المسلمين تؤيد ادارة شؤون الدولة من خلال التعاون مع المؤسسة البيروقراطية والامنية القائمة. قادتها يعلنون بأن السياسة التي سينتهجونها ستقوم على مبدأ المبدأ الشرعي لضمان «مصلحة العموم»، والتي تعني تحقيق حقوق عموم مواطني الدولة وانتهاج سياسة تأخذ بالحسبان عموم مصالح الامة.
في هذا السياق يسعون الى ان يبلوروا في مجلس النواب ائتلاف يستند الى «اجماع وطني» وليس بالذات «دينيا». هذه المهمة ليست سهلة التحقيق. فرؤساء حزب الحرية والعدالة يسعون الى ان يدمجوا في هذا الاطار أكبر عدد ممكن من ممثلي المعسكر الليبرالي ومجموعات «الشباب» ولكن الفوارق بين مواقف الطرفين كبيرة جدا. في حزب الوفد الليبرالي مثلا يدعي الكثيرون بانه لا يجب التكنيس تحت البساط لخلافات الرأي في مسألة الدين والدولة ويفضل قيادة معسكر المعارضة في البرلمان والكشف عن عدم قدرة خصومهم الاسلاميين على الحكم. مندوبون آخرون يعتقدون بأن الانضمام الى الائتلاف سيساعدهم على تحقيق أهدافهم التي سيجدون صعوبة في تحقيقها من مقاعد المعارضة.
الانتخابات لـ «برلمان الثورة» فتحت فصلا جديدا في العلاقات بين الاخوان المسلمين والجماعات السلفية. فهؤلاء واولئك يتبنون تطبيق الشريعة الاسلامية في كل مجالات الحياة، ومع ذلك فإن لهم تفسيرات شرعية مختلفة جدا في مسألة وسائل تحقيق هذا الهدف. حتى وقت أخير مضى عارض السلفيون المشاركة في الفعل السياسي وكان نشاطهم الجماهيري محدودا جدا. دخولهم الى الساحة الحزبية يدل على تغيير دراماتيكي في طريقهم، لا يقل عن انجازاتهم في صناديق الاقتراع. ويسرق هذا التغيير من جديد الاوراق في الساحة السياسية المصرية، لا سيما في العلاقات بين الاخوان والسلفيين. في أعقاب الانجازات المهمة للسلفيين في الانتخابات للبرلمان سيسعون الى توسيع نشاطهم الجماهيري ومنافسة الاخوان المسلمين على اصوات جمهور الناخبين المتدينين والمحافظين. في هذا السياق يجب النظر الى مساعي حزب الحرية والعدالة لاقامة ائتلاف لا يشارك فيه حزب النور. مثل هذه الخطوات السياسية لن تمنع التعاون اللحظي في مواضيع برلمانية بين الحزبين الاسلاميين، اللذين يشكلان نحو 70 في المئة من مجلس النواب المصري.
«برلمان الثورة» يشكل حلقة حرجة في المساعي لتأطير نظام سلطوي جديد في مصر ما بعد مبارك. في الاشهر المقبلة ستنضم اليها حلقات حرجة اخرى، وعلى رأسها اقامة دستور جديد، انتخاب رئيس الجمهورية، نقل عموم صلاحيات السلطة الى قيادة مدنية منتخبة، حل المجلس الاعلى للقوات المسلحة وعودة الجيش الى ثكناته. وسيؤدي استكمال هذه الخطوة الى نشوء نظام سلطوي وسياسي جديد تتقرر خصائصه في ظل صراع الجبابرة بين القوى المشار اليها اعلاه وبالتالي فمن السابق لاوانه تقدير صورته. ومثل الاوضاع الثورية التي نشأت في الماضي يمكن التقدير بان النظام «الجديد» سيتميز بصراعات قوة تتواصل على مدى الزمن. مصر توجد في ذروة تجربة ثورية، وتاريخها الطويل يدل على أن التغييرات الدراماتيكية المتبلورة فيها ستؤثر على سياقات الشرق الاوسط بأسره. 

السابق
الصيغة ماتت
التالي
المتمردون ينتظرون ان تستيقظ حلب ودمشق