في مطار بيروت… 

تجلس في أحد المقاعد المتناثرة في مطار بيروت. تنتظر رحلة بحثك عن الشعوب المنسية في تلك الأرض التاريخية، إربيل. حولك وجوه عامة معروفة. تستعد للانتقال الى دولة بني سعود. من مشارب ومذاهب ومضارب. جمعهم اتصال هاتفي من مكتب «الحرس الوطني» في الرياض. أنت مدعو الى مهرجان الجنادرية، قيل لكل منهم. فهبّوا يلبون النداء «الثقافي». في وجوههم بعض حياء مكتوم حيال وجهتهم. يشيحون عنه بما يشي بخجل. يقنِّعونه برغبة اكتشاف أو حشرية رحالة صوب عالم من ماضٍ سحيق.
أحدهم يساري سابق، ليبرالي صادق في قناعاته والاقتناعات. الآخر «اشتراكي» مسؤول. ثالثهم مسيحي ملتزم حتى الجذورية. في الزاوية الأخرى إسلاميون، «إخوانيون» بتسميات شتى. على سحناتهم راحة أكثر وضوحاً حيال المشوار. كأنهم يعودون الى الجذور، كأنهم يؤوبون الى بيتهم، أو يحجون الى «البيت».
تتأملهم يجتمعون على ذلك الاستدعاء. تتساءل حول دوافعهم وحوافزهم والمشاعر، فيما أنت تقلّب صفحات الإعلام الإلكتروني بين يديك. في صفحة أولى تقرأ: نائب سلفي مصري يرفع الآذان وسط جلسة مجلس الشعب المصري، المجلس نفسه الذي احتل الإسلاميون 74 بالمئة من مقاعده، بعدما توزعوا الفوز بها بتمويل غازي من القارة القطرية للسلفيين، وتمويل نفطي من الكوكب السعودي للإخوانيين. تحدق في صورة النائب المؤذن، وفي بسمات وجوه على المقاعد أمامه. معالم وجهه تبوح بمقصد المسافرين «الثقافيين»، فيما البسمات شبه الساخرة، أقرب الى بسمة جواب المسافر: ذاهب الى مهرجان الجنادرية.
تقلّب وجوه «المستدعَين»، وتقلّب معهم صفحات الأخبار: في اليمن كاتبة شابة تواجه «ثورة» كاملة من ثورات «الربيع الجليدي». كل جريمتها أنها كانت قبل عام كامل من أصحاب الأحلام، قبل أن يحوّلها اختطاف ثورتها بين عباءة وعمامة، الى «صاحبة أوهام». كل ذنبها أن مشاعرها من الخيبة والصدمة والانكسار والهزيمة الذاتية، فاضت على شكل كلمات مرارة واستذكار واستنكار. فكتبت عبارة واحدة، كانت كافية لتجريمها: «العسكر والقبائل والبيئة المعادية، والله الذي لا يرانا». تجرؤ على قول إن الله لا يرانا؟؟ عبارة كافية لتكفيرها، كافية للرجم والحرق والقتل والسحل، بتهمة، أو قل بإدانة «الإلحاد والإساءة إلى الذات الإلهية». فلهذه «الذات» في تلك الثورات حراس حصريون، نوع من سجاني الآراء والأفكار، وسجاني الضمائر والسرائر، وسجاني الله نفسه. اليمن السعيد، أرض تلك المأثرة ـــــ المفخرة الثورية، هو نفسه اليمن الذي أمنت العائلة السعودية نهاية سعيدة لثورته. العائلة السعودية نفسها التي أمنت سفر هذه الوجوه السعيدة من حولك، لمشاركتها في مهرجانها الثقافي.
يمر الوقت ثقيلاً قبل أن يحزم الثقافيون أحمالهم الخفيفة. يدلفون من حولك بصمت مريب. فيما تتابع الأخبار: مصر الثورة العظيمة حكمت على عادل إمام. قبله كانت قد دأبت على تفجير أفكارها الثورية باتهام مغنية لبنانية «بالتعري والإثارة»، فأصدرت قراراً يمنعها من مزاولة عملها في مصر، ويقضي بإحالتها على التحقيق الفوري. قبل إمام والمغنية لم تغفل الثورة عن «ألفاظ خارجة عن الآداب العامة» في أحد الأفلام. فأمرت بسحبه من دور العرض، «لإعادة تقويمه». فالثورة أولاً وأخيراً إعادة تقويم. وسمع الثورات الربيعية حساس جداً، مرهف، عذري، مثل الغشاء، أو مثل غشاوات العقول المسطحة. ألا تكفي الثورة صورة علياء النقية؟ فكيف تحتمل صوتاً وصورة؟
غادر الثقافيون أرض بيروت. تبقى وحيداً في انتظار فلك «الكورد» الآتي من طوفان نينوى، وفي انتظار المزيد من أخبار زمن «الصحوة». قبل أن يسطع أمام عينيك خبر حبة الكرز على حلوى «الربيع»: علمت صحيفة عصرية حداثوية مرموقة وموثوق بها، أن رأس العائلة السعودية قد أمر بــ «القبض فوراً» على كاتب صحافي من «رعاياه»، «أساء إلى الذات الإلهية» هو أيضاً على موقع «تويتر». الكاتب سارع الى «التوبة» وطلب المغفرة والاعتذار والتوسل والانسحاق والامّحاء، لكن كما قال «كبير العرب»: «ما بدر عنه أمر لا مكان للأعذار معه». تتابع الخبر: بيان من هيئة دينية يوحي بضرورة فرم الكاتب قطعة قطعة، رداً على جريمته حرفاً حرفاً، استرحام من عائلته، شتائم وهدر دم على نحو مليار موقع… ثم هروب المجرم خارج أرض المهرجان الثقافي العظيم.
ترفع رأسك بحثاً عن وجوه المسافرين. يخطر ببالك أن تنده لهم، أن تصرخ بهم خوفاً عليهم من مهرجان رقصة العرضة المشمولة بتراث الأونسكو العالمي. ماذا لو كان في حقائبهم كتاب لدانتي؟ أو فولتير؟ أو الحلّاج أو العظم أو نيتشه أو أيّ كتاب؟
تقطع مخيلتك العقيمة إشارتان: صوت قسري كمن يغسل دماغك: «مطار رفيق الحريري الدولي»، وصورة عقارب ساعة على الحائط تشير الى وقت محلي. ثمة أمر ناقص في الاثنين: الدقائق صحيحة، لكن في أيّ قرن نحن؟  

السابق
سقوط سورية «الوشيك»
التالي
المؤامرة الإيرانية المتجددة