على عتبة عاصمة الثقافة الإسلامية السلطة اولاً

يطوي جبل عامل صفحة ذهبية من تاريخه العلمي والثقافي، صفحة راج عصرها زمن الشهيدين الاول والثاني وما تلاهما من نهضة علمية، ثقافية ودينية، أخذت حيزها الكبير في التألق الفكري، وضعت جبل عامل أنذاك في حلبة التنافس العلمي مع النجف، عبر علماء كانت لهم صولاتهم وجولاتهم في محافل العلم والادب والفقه والشعر، ويشهد لهم التاريخ، وها هي النجف تقف إجلالا لهذا العز العاملي، تحفره في مكتباتها، ولكنها ترمقه بسؤال أين أنت اليوم؟
مبارزة فخرية يقيمها جبل عامل مع النجف، إذ يقول"أنا الذي رفدك بعلمه، أنا الذي بشّر بي الأتقياء، ومن بطن مغارتي ولد رجال هزموا الأعداء"، يجيب النجف، "أنا الذي داس أرضي الأنبياء، انا الذي صٌنفت عاصمة للثقافة أدرك، ولكن أين تقع اليوم في خارطة العلوم الثقافية التي صدَّرتها للعالم، ومازالت محفورة في مكتبات "قم، تركيا، النجف، الاستانة، أفغانستان، وباكستان وغيرها"، يسكت جبل عامل ويدخل في نفقٍ يبحث عن حضور عِلم أوصيائه في حضارته، ينقِّب عن أسباب إنكساره، ينبش في جذوره،وفق جدلية تفتح النقاش على مصراعيه، "أين حضوره وكيف سيعيد إستثمار ثقافته؟

فحص: علاقة متعددة المستويات
يقول العلاّمة السيد هاني فحص أن "بين جبل عامل والنجف علاقة متعددة المستويات المعرفية والأدبية والعلمية والاجتماعية"، "غير ان صورة هذه العلاقة كانت قبل قرن من الزمان أكبر وأشد وضوحاً وأكثر تداولاً، وبقيت تتراجع في الذاكرة والوعي والقول اليومي الى حد أنها أصبحت وكأنها فرضية تبحث عن أدلة تفصيلية لاثباتها، رغم تكرار القول بأنها عميقة جدا ومتشعبة ومتبادلة…"
جبل عامل يملك حالة ثقافية عريقة، في إنبعاث الفكر والنقاش حول العلم والشعر والأدب، الشعر العنصر الإضافي في ثقافة العالم او الفقيه، الناتج عن التأثر بالمناخ الشعري للنجف. وكانت صورة هذا المناخ تنتقل الى جبل عامل بعد عودة العالم الى دياره. كما أن عددا من العراقيين كانوا يفدون الى جبل عامل، لينهلو من علماءنا ومجتهدينا، فبلدة جباع إحتضنت في مناسبة واحدة 70 مجتهدا"، "اليوم نقف عند عتبة النجف عاصمة للثقافة الإسلامية، وجبل عامل يبحث عن ثقافته".
المصري: السلطة طغت على العلم
في منزل مسكون بثقافة عاملية نجفية، هنا في مكتبة ينوء جبل عامل بنفسه عن هذه "الخاصية" التي كان سيدها فيما مضى، ليس لأن من خطوا تلك الكتب تخلوا عنها بل لأن أتباع الفكر العاملي تنازلوا عن إجتهادهم، لصالح "ألسلطة" يقول رئيس الجمعية العاملية الشيخ قاسم المصري الذي يقرأ في دفاتر جبل عامل القديمة المتراصفة على رفوف مكتبته، "ينبش عزها وصلابة تحديهم لكل المعوقات التي واجهت علمهم من قبل العثمانيين والفرنسين"تراه يقول "أن الشهيد الثاني كان حطَابا وكان يتخفى خلفها هربا من تنكيل العثمانيين له، والذين قتلوا فيما بعد، ليحدوا من إنبعاث العلم العاملي، " الشيخ محمد تقي الفقيه كان واحد من علماء جبل عامل، اسس أول حوزة لبنانية في النجف، عاند كل الظروف المعيشية القاسية التي رافقته ومع ذلك تمكن من تأليف عدد من الكتب التي ما زالت تدرس في الحوزات الدينية وأنا تتلمذت على يديه" ويشير الى أن "إن أغلب علماء جبل عامل كانوا ينظمون الشعر، وكانوا بليغي الثقافة والادب والعلوم". ويضيف "العلم يحتاج الى تواضع وهو لا يستقر مع التكبر، للأسف السلطة طغت على العلم فانقلبت المعايير وأصبح العلم اليوم غاية للوصول للسلطة، وليس هدفا للنهوض الثقافي العلمي"، بل "إننا نعيش أزمة ثقافة الإنسان، التي تغيب بنسبة 60% عن حضورها، إذ فقلما نجد إنسانا عالماً تغزوه ثقافة بليغة، فحضورها اليوم ضعيف بل نفقتده، ومن هنا يٌفهم مدى إنحدار الواقع الثقافي العاملي الذي يقوم على ثقافة أجنبية بعيدا عن بلاغات وأدبيات القرأن، وهذه بحدها الادنى تضعف القوة الادبية واللغوية التي كانت سلاح علمائنا، في وقت تتآلق النجف بها".

فحص: بحثا عن وظيفة مشتركة
هل يكفي أن نكون قيمة مضافة على الثقافة وننظر للنجف من نافذة الحسرة، أم يجب أن نعيد النظر بواقع جبل عامل الثقافي ليتلاقى مجددا مع النجف قي تلاقح الافكار، يؤكد السيد هاني فحص "أننا نحتاج" الى دراسة تفاصيل هذه المسألة، لتحويلها الى معلومات تفصيلية واستنباط دلالاتها، بحثا عن وظيفة متجددة مشتركة للنجف وجبل عامل معاً… انطلاقاً من ان التعرف الى المكوّن النجفي في العقل والوعي والسلوك والادب العاملي، يشكل ضماناً ثقافياً ضرورياً، يشعر العاملي بموقعه ومكونه، ويشعر النجف بضرورة تجديد دورها في اعماقها العربية فضلا عن شبه القارة الهندية وغيرها.
مقداد
يقول الباحث يوسف مقداد أن "لجبل عامل روحية خاصة تتبرج بالوان علمية منوعة ينشط داخله المحافل الثقافية الشعرية ولكن هل هي بمكانة جبل عامل، هل يمكن أن نقارنها بمصاف "النجف"، وإلا لما لم يدخل جبل عامل اليوم الخارطة الثقافية العلمية؟" أسئلة تفرض العديد من وجهات النطر بخلفياتها، والأسباب الكامنة وراء هذه النتوءات التي إلتف حولها جبل عامل، ويضيف الباحث" أن جبل عامل تحول إلى "مكسر عصا الظروف الراهنة، التي رحَلت عنه ألق السنوات وأدخلته في خواتيمة معقدة تحتاج الى من يملك مفتاحا لفتحها، ويعلل الباحث مقداد، نظرته لهذا الحال بعدد أسباب أولا " غياب البلاغة الادبية واللغوية لتحتل مكانها الثقافات الاجنية والصورية"، وثانيها "الإفتقاد للاجتهاد العلمي بحجج كثيرة واهية، يغيب معها الإصرار على العلم، وهذه نقطة ضعف تسجل له، إستغلها النجف وارتقى بعلومه المتعددة".
في الفترة الأخيرة شهد علماء جبل عامل انفتاحاً قوياً على النجف، فالكل يريد أن ينهل من علوم الأخير ويغرف من "فيئ" أشجار الثقافة والمتانة اللغوية والتعبيرية، ، ويُقر الشيخ قاسم المصري "بالحاجة الى تلاقح فكري بين علماء النجف وجبل عامل، وإلى تبادل الكتب علّها تخفف من سيطرة السطوة السياسية على الحالة الثقافية"، ولا يخفي نيته "العمل على إرساء ثقافة عاملية "نائية" فالامل بعودة العلم قوي جدا"، خاصة في فورة الإنفتاح، إذ وقعنا إتفاقية ثقافية بين دار القرآن في العتبة المقدسة والجمعية العاملية لإحياء التراث وذلك لتبادل الخبرات الثقافية في مجال المعاهد القرآنية والاجتماعية وهذه ستكون مفتاح جديد لكثير من الأوراق الثقافية والاتفاقيات مع النجف"

…وفي زمن الثورات الفكرية والثقافية، سجلت النجف إنجازاً ثقافياً بأختيارها عاصمة "للثقافة الاسلامية لعام 2011"، تبقى العين ترمق النجف بدمعة وحسرةٍ، حيال التحديات العلمية والثقافية التي تطرج نفسها بقوة ليس على النجف فحسب بل على كل من يقف في موقع رسم معالم المستقبل الحضاري والانساني .
  

السابق
هل ينجح الرئيس السنيورة في فتح قنوات الحوار؟
التالي
الحريري: الأسد ما كان ليتجرأ على اجتياح المدن والقرى السورية لو لم يحصل على غطاء خارجي