حرية التعبير ومسؤولية الكلمة

قال أوسكار وايلد ذات مرة : " أبدو متعباً للغاية .. لأنني أمضيتُ الصباح كله أضع فاصلة ، وبعد الظهر كله لكي أحذفها ! " .

كان الرجل يرمي إلى إحساسه العميق بمسؤولية الكلمة ، وكم كان يحتاج من الوقت للتفكير في أنه قد وضعها في مكانها المناسب ، حتى لا تحدث أثرا عكسيا أو تأتي بمردود مخالف .. كان هذا فيما مضى ، أما اليوم في زمن الفيسبوك والتويتر وأدوات التواصل الاجتماعي المخيفة ، زمن السباق على تسجيل الحضور في كل شاردة وواردة ، بل زمن القفز فوق حواجز المنع ، وتحطم سواتر الرقابة بذريعة الشفافية ، واتساع رقعة أفق العالم الافتراضي أمام الباحثين عن الشهرة ، والراغبين في تصفية الحسابات ، واختلاط الحابل بالنابل تحت شعار حرية التعبير .. فلم يعد فيما يبدو هنالك مكان لمسئولية الكلمة ، ولو عاش وايلد إلى هذا اليوم لاضطر لأن يستبدل ما كان قاله سابقا ليقول : " أعتذر .. فلم يكن لدي الوقت لأضع تلك الفاصلة " .

في ظل غياب مسؤولية الكلمة أصبحت معظم المنابر منابر للتأجيج ، ودخل على الخط خطباء وكتاب وأدباء وأنصاف أدباء ، ومشاغبون وعامة ربما لم يتمّ بعضهم قراءة كتاب واحد ، فقط لأن الساحة تحمل الجميع ، وبرز على السطح مدّعو البطولات يثرثرون وينظرون ويقيّمون ويقوّمون كل ما يروق لهم .. تحت عنوان حرية التعبير ، وهو واحد من أجمل وأكثر العناوين إغراءً حينما يتم في سياقه الموضوعي ضمن إطار مسئولية الكلمة .

حتى تويتر نفسه والذي ولد من رحم أعتى الديموقراطيات في العالم ، وفي أحضان مؤسسات حماية حرية التعبير ، أعلن المسؤولون عنه ، وبعد أن بلغه أذى هذا الانفلات عن نيّتهم في منع بعض المشاركات عن بعض البلدان حماية لسلمها الأهلي ، وتجنبا للمسؤولية الأخلاقية عن توابع هذا الزلزال الذي كان من أجمل حسناته أن أشعل فتيل الثورات على الظلم والقمع والحيف والخوف والاستبداد .. لكنه فشل بعد نجاح بعضها في بلوغ أهدافها في إطفاء نيرانها التي لم تدع ساحة إلا وقد التهمتها ، حتى الساحة الرياضية ، ولعل ضحايا ملعب بورسعيد في مصر خير شاهد على ذلك ، عندما أشعلت لوحة استفزازية مشاعر الجمهور وأدّت إلى تلك الكارثة ، حيث يجب الفصل ما بين كسر حاجز الخوف ، وكسر حاجز مسؤولية الكلمة .

كلنا في صف حرية التعبير ، ومع ضرورة صيانة هذا الحق إلى أبعد مدى ، لأن البديل الطبيعي في حال غياب هذا الحق هو نموه في الأقبية ، وعلى متن قطار الشائعات ، وهذا أشد فتكا وأكبر خطرا بالتأكيد .. لكن يبقى ذلك مشروطاً بالشعور بمسؤولية الكلمة .. حتى لا ينجرّ المجتمع خلف نقاشات هامشية كل ما تملكه من عناصر الحضور هو عنصر الإثارة والملاسنات المكتوبة ، وتتذكرون قصة خصلة الشعر ، وبرقع ذات العيون الفاتنة وغيرها ، مما يصرف المجتمع عن مناقشة قضاياه الكبرى ، وفي مقدمتها في تقديري كيفية استثمار طاقات الشباب وتفريغها في وعائها الحقيقي وهو بناء المستقبل.
  

السابق
ما بين الإعلام.. والإعدام… حرف
التالي
الثورة السورية على حدّ السيف