غليونُ: مُغْتالَ العقلِ والضمير

يجب أن تحذر المجتمعات، شرقاً وغرباً، مهرِّجي «الفكر» و«الثقافة»، على شاكلة برنار هنري ليفي في فرنسا، وبرهان غليون في سورية (علماً أنه مقيم منذ زمن في باريس)، فهم مدّعو «منهج» و«أطروحة» و«خطاب فكريّ» وليسوا عند التعمُّق والتمحيص في «أفكارهم» و«نظرياتهم» و«فلسفاتهم» سوى منتحلين أو مقلّدين أو لصوص أفكار، لكنهم بارعون في تسويق أسمائهم والترويج لألقابهم الفكرية أو الأكاديمية وتلميع صورتهم في الإعلام وفي الأوساط الجامعية والثقافية والسياسية وغيرها. «شارلاتانيّون» بارعون في الإيهام والتلاعب بالعقول وإقناع البعض بأنهم ذوو قيمة وفرادة وأهمية، فيما لا يتعدّى واقعهم كونهم دجّالين من الطراز الأول يتقنون التضليل وادّعاء الأهميّة، وليسوا في حقيقة الأمر مهمّين على الإطلاق.

تمكّن برهان غليون في العقود الأخيرة من ترويج اسمه وتلفيق سمعته «الفكرية» في أوساط ثقافية عربية، ثم فرنسية حيث دَرَسَ ودرَّس ووسَّع لنفسه فسحة أكاديمية ليست صعبة كثيراً في مدينة كوسموبوليتيّة مثل باريس فيها من مهاجري المعمورة ما فيها، ولمّا حان بالأمس وقت المؤامرة الغربية والعربية الكبرى ضدّ سورية، وفرنسا عضو بارز في هذه المؤامرة، بحثت الاستخبارات الفرنسية وصهاينة الإليزيه، وفي مقدّمهم اليهوديّ الأصل الصهيونيّ الهوى والالتزام ساركوزي، عن «أكاديميّ» أو «مثقّف» أو «مفكّر» سوريّ معارض (ذي خلفية طائفية حاقدة على الأرجح) ليكون دميةً في يدها تحرّكها بالخيوط وترفعها في واجهة المسرح المعدّ للمؤامرة، فتصدّق الدمية نفسها وتظنّ أنها النجمة الفعلية في العرض، وتلك حال برهان غليون، الذي صدّق نفسه « وتعملق» و« شدّ وقدّ» وخال نفسه بحجم بلده وحجم دولته وقائدها، وأنّه مؤهّل حقاً ليصير مستقبلاً ( أي في مستقبل، يا للبؤس العقلي، لن يأتي إلى يوم القيامة) رئيساً لسورية، تماماُ مثل المجانين في المصحّات العقلية، حيث واحد منهم يخال نفسه الله وآخر نابليون وثالث زعيماً كبيراً لقومه! هكذا صدّق «المفكِّر» العظيم برهان غليون أنه المنقذ والقائد الملهم والحصان الرابح لأسياده الفرنسيين الممسكين بخيوطه والدافعين به إلى وجه ما يسمّى المعارضة و« مجلسها الوطنيّ»!
 كي لا يبقى نقدي لمهرّج «الأكاديميا» و«الفكر» هذا (مهرّج من الصنف الرديء) بلا إسناد مرجعيّ، تناولت كتاباً له عنوانه «اغتيال العقل» صادر لدى «المركز الثقافي العربي» للاطّلاع على بعض مزاعمه «الفكرية»، فيا لهول ما اكتشفت. صحّت كل ظنوني، وتأكّدت من أنّي حيال « مفكر» و« مثقف» و«أكاديميّ» عربيّ من النوع الزائف والدجّال والمنتحل مجموعة صفات ونقع على أمثاله كثيراً في عالمنا العربيّ المتخلِّف. قرأت فصول الكتاب ووقعت على مجموعة شعارات «فكريّة» أطلقها غليون هذا في مؤلّفه إنشائياً وببغائياً، وهو اليوم أوّل مخالفيها وناقضيها والعاملين بخلافها، ففي الفصل الخامس تحت عنوان «نقد السلفية: من الهوية إلى الذاتية» يقول السيّد غليون: «(..) إن الحداثة، أو التطلّع إلى تقليد الغرب، ليست كما يقول التراثيّون. والنظرية الأصولية، ثمرة للغزو المادي أو الفكري الغربي، أو لتآمر بعض المثقفين مع الأجنبي، إنما هي النتيجة المباشرة لفقدان الثقافة العربية تدريجيّاً تحكّمها بالواقع وبسلوك الناس والجماعات وأفعالهم(…)».

أتوقّف مليّاً في هذا المقطع عند عبارة « تآمر بعض المثقّفين مع الأجنبي»! فهل فكّر برهان غليون لدى كتابتها بأنه سيكون يوماً أكبر «مثقّف» متآمر مع الأجنبيّ بل مرتضٍ أن يكون دمية رخيصة في يد هذا الأجنبي؟! هل من خفّة «فكريّة» تفوق هذه المفارقة، أن يشير كاتب «مفكّر» ( في موقع الهجاء والتخوين بالطبع) إلى وجود مثقّفين متآمرين مع الأجنبي ليغدو لاحقاً زعيم هؤلاء «المثقّفين» المتآمرين؟!
في فصل آخر سابق على ما ذكرناه عنوانه «العقل السجاليّ» يقول السيّد غليون: «(…) المجتمعات تتغيّر على قاعدة من التوازنات الاجتماعية والبرامج والمسؤوليات المتباينة (…) فتحديد المسؤوليات هو أساس كل مبادرة جديدة لا تقصد إلى أن تكون تدميراً لما سبقها ومحواً للإنجازات القديمة وبدءاً من الصفر، وإنما تسعى إلى أن تكون إصلاحاً للتجربة الماضية ودفعاً لها فتخلق بذلك ديناميكية تاريخية تراكميّة هي عكس ما يعيشه المجتمع العربي اليوم من تدمير شامل لإنجازات الماضي كلّما ظهرت سلطة أو سيادة جديدة (…)»!

عجباً والله عجباً. أهذا برهان غليون نفسه يكتب مثل هذا الكلام وهذه «المبادئ الفكرية» السامية، ينصاع لتوجيهات الاستخبارات الفرنسية ودوائر التآمر في الإليزيه والخارجية الفرنسية فيرفض الحوار مع السلطة الحالية القائمة في بلاده ويعلن شرطاً واحداً أوحد: رحيل «النظام» والرئيس! ويتنكّر لـ «قاعدة التوازنات الاجتماعية والبرامج» و« المسؤوليات التي ليست تدميراً لما سبقها» ويناقض تماماً هجاءه للمجتمع العربي الذي « يعيش تدميراً شاملاً لإنجازات الماضي كلما ظهرت سلطة أو سيادة جديدة»! أليست مواقفه الراديكالية الحاقدة، الجليّة الحقد والشخصانية « تدميراً شاملاً لإنجازات الماضي» لأجل سلطة أو سيادة جديدة وُعِدَ بها ولم يحصد منها سوى أضغاث الوعود؟!

في فصل آخر عنوانه « صراع الثقافات أو حدود المدنية الغربية» تطلع علينا «عبقرية» غليون بهذه النظرية «الشعارية» التي تكشف حقاً حجم نفاقه وتناقضه، إذ يقول: «تشكل الحضارة الغربية والسيطرة الغربية اليوم أيضاً تحدّياً مستمرّاً وشاملاً لكل الشعوب الأخرى، علمياً وعسكرياً وسياسياً وتقنياً وصناعياً واجتماعياً وروحياً معاً، ومع استمرار هذه الغلبة وتوسّع دائرتها وتعمّق الشعور بضخامتها، يزداد إيمان الشعوب الضعيفة بعجزها وفقر ثقافتها، ويترسّخ لديها النزوع إلى الاقتداء وتقليد الغالب في « شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» (مقتبساً قولاً لابن خلدون) وذلك لدى الخاصة والعامة معاً لا فرق في ذلك».

بربّكم، هذه الحضارة الغربية المسيطرة التي يهجوها الغليون العظيم، أليست هي نفسها التي يجلس حضرة جنابه في حضنها اليوم ويستقوي بها على وطنه وشعبه ودولته، مناقضاً الصورة «المُشَيْطَنَة» عنها ومتبنيّاً إيّاها وواجداً فيها كل «خير وحقّ وجمال»؟! غريب أمر هذا الرجل، كيف لا يرى حَرَجاً أو خجلاً في نقض سائر أقواله وشعاراته و«أفكاره» النظرية، كأنه لم يقرأ ما كَتَب بل سرق وانتحل وسطا، خاصة من ابن خلدون الذي يقتبس منه حرفياً.
إنّه، عذراً لضيق المجال، غيض من فيض تناقضات برهان غليون وتهريجاته «الفكرية» وتنكّره لما خطّ بيده ونطق بلسانه، ليتبدّى لنا كم هو «مثقّف» زائف و« مفكّر» دجّال و«أكاديميّ» من المستوى الرديء، وكم هو في المقابل عميل رخيص للفرنسيين محتضنيه، ولسواهم، وكم هو مسكين واهم، وكم زادت خيبته وسقط وهمه بالأمس القريب عقب التحوّل التاريخي في مجلس الأمن، فعساه يعود إلى مقعده الأكاديميّ المتواضع في فرنسا، وإلى حجمه الفعليّ، ولا « يتعملق» مجدّداً بعد اليوم ويظنّ نفسه من طينة الكبار ومعدنهم، بينما هو ليس أكثر من دمية تافهة أُلبست ثوب العمالة.  

السابق
باراك: اسرائيل قلقة من احتمال نقل اسلحة سورية متطورة الى حزب الله
التالي
حفل زفاف تحت الماء في تايلاندا