العين بالمخرز والمجزرة بالمجزرة

العائلة التي هربت من بيتها في حمص بعد أن أصابته قذيفة مدفعية، لم تكن تدرك أن هذه اللحظة سيكون بيتها هو الأكثر أماناً في حي بابا عمرو الذي يتعرض لأكثر المجازر وحشية التي شهدتها السنوات العشر الأخيرة في حروب العالم.
صور الفيديو التي تناقلها موقع "يوتيوب" أظهرت الأم تخرج من المنزل ومعها أطفالها الصغار جداً وتلاها الأولاد الأكبر عمراً ومعهم والدهم فيما وقف حامل آلة التصوير يلتقط المشهد الأكثر ترويعاً في حياة المدنيين في حمص. قذيفة اخترقت المنزل ودمرت فيه جدرانه وأحرقت سرير النوم وخزانة الثياب وألعاباً جمعها الأهل لأطفالهم الذين تناقلوها من كبيرهم إلى صغيرهم.

العائلة التي هربت في أول القصف إلى الطابق الأرضي لم تكن تدرك أن بيتها سيصاب بقذيفة ستدمر غرف نوم صغارها، "زمط" الصغار من شظايا القذيفة وبدأوا البكاء خوفاً من هذا الصوت الذي لم يسمعوا ما ينبيء أنه قادم إلى جنتهم التي صارت محرقة. أرادت الأم الخروج من المكان بحثاً عن زاوية فيها أمان أكثر، هي تشبه إلى حد كبير آلاف العائلات الذين فروا أمام القصف العنيف الذي شهدته الحروب اللبنانية، رعب باد من طريقة فرارها مع الصغيرين، لا يلوون على شيء، تهرب الأم بهم وتعرّض نفسها لفراغ الشارع الضيق وللقذائف التي تهبط عشوائياً من دون حسيب أورقيب، فوقها السماء وغيومها وقذائف تنتظر أجساداً لتقتلها.
لهذه الصورة كتب أحد الناشطين اللبنانيين أن "قصيدة أجمل الأمّهات التي غناها الفنان مرسيل خليفة خلال الحرب اللبنانية ليست صالحة في الوقت الحالي للمشهد الحمصي". فبرأيه أن "الولد يموت وهو في حضن أمّه أو يموتان معاً أو تموتُ قبله او دونه كعادتها عليها السلام".

فالمشهد السوري ذكّر كثيرين هنا بثقافة الحروب التي مرّ بها لبنان، من الأغاني إلى طرق الاختباء من القصف والهرب من ملجأ إلى آخر والبحث عن رغيف خبز، وكذلك صوت القذيفة التي تمر من فوق المنزل باتجاه منزل عائلة أخرى. ولكن ثقافة الحرب اللبنانية علمتنا أن نبقى في المنزل الذي أصيب بقذيفة عشوائية لا نهرب منه فالمدفع الذي ضرب الصاروخ اهتز قليلاً ولن يصيب المبنى مرة ثانية، هذه الثقافة البشعة والمؤلمة يتلقاها اليوم أهل حمص ويتعلمونها أو في طريقهم إلى تعلمها أمام المجزرة التي تقتلهم كل يوم، كأنهم يعيدون مأساتنا، مع فارق وحيد أننا لم نكن وحدنا في العالم.
هذا الأسبوع لم ينم أهالي عدة قرى في البقاع الأوسط لعدة ليال، فهم يسمعون صوت القصف الذي يستهدف قرى وبلدات في ريف دمشق أيضاً، صاروا يتسابقون على تعدادهم عبر الحدود القريبة ويعددون نوعيتها، "انطلقت.. انفجرت" أو "قذيفة هاون" التي لا يسمعون انطلاقها، أو قذيفة مدفعية يسمعون انطلاقها وسقوطها، فيدركون أن هناك في سوريا عائلة أخرى أصيب بيتها في الزبداني قد يكون قتل وجرح أفرادها أو استطاعوا الاختباء منها فيما الأم تروي للأطفال قصة "ليلى والذئب" الذي صار له شكل دبابة.

في مشاهد الفيديو المهربة من حمص يتحرك الناشط خالد أبو صلاح مع الجرحى والجثث من المنازل المستهدفة إلى المستشفيات الميدانية، يحمل طفلة صغيرة حولتها شظايا قذيفة هاون أو صاروخ دبابة إلى جثة هامدة، جسد لا يحتمل صفعة صغيرة تحول إلى "منخل" من عصف شظايا حديدية، يحكي خالد ويرفع صوته قبل أن يصاب هو وينقل مع الجرحى إلى غرفة في بيت صغير سموه "مشفى ميداني" ولكنه لا يشبه حتى المستوصفات النقالة في القرى البعيدة بتجهيزاته القليلة.
أحد الشبان الصغار ويدعى حمزة بكور في المكان المليء بالدماء يبكي بصوت لا يحتمل تقترب منه كاميرا ناشط وتظهر مشهداً فظيعاً، شظايا القذيفة اصابت فمه وأزالت فكه السفلي لتترك أشلاء معلقة في الرأس، حمزة يصرخ من ألم ومن رعب ومن عدم قدرته على القول.. حنجرته تنقل صوته كأنه سيموت بعد قليل. مشهد لم تستطع حتى السينما الهوليوودية صناعة مثله، ولكن قذيفة عشوائية لنظام الأسد استطاعت القيام بها. مات حمزة من الألم ومن الرعب ومن خسارة صوته الذي كان يرفعه في التظاهرات السلمية.

هناك في تلك البلاد ألم كبير، لا يحتمل، وأمهات يمتن إلى جانب أطفالهن، صار الموت في التظاهر كلعبة أمام كمية القتل الذي يرونه، يتذكرون هناك مدينة حماه التي دمرها النظام قبل ثلاثين عاماً في الخامس من شباط، من ذلك البرد القارس، وينتبهون أن التاريخ يعاد بمأساة جديدة في ذكرى مجزرة حماه مجزرة جديدة في حمص.

  

السابق
بيان من أحمد فتفت حذر من دخول سوري الى وادي خالد
التالي
مصر التي في خاطرهم