عن حلب التي لا تَحتَمل ثقلها

في جمعة حق الدفاع عن النفس (27 كانون الثاني)، فقدت حلب تسعة من أبنائها في حي «المرجة»، سقطوا برصاص عناصر من أجهزة الأمن والشبيحة، إثر خروج تظاهرات حاشدة، شملت حوالى اثنين وعشرين نقطة تظاهر في المدينة وحدها، إلى جانب أربع وأربعين نقطة في الريف.
لم يكن الشهداء التسعة، إلى جانب العشرات من الجرحى الذين سقطوا، هم أوائل شهداء المحافظة بالطبع. فقد بلغ عدد شهدائها حتى اللحظة حوالى مئة وسبعين شهيداً، وعدد معتقليها قرابة ألف (بحسب مركز توثيق الانتهاكات). لهذا السبب ولغيره، رفع متظاهرون سوريون، في جمعة «عذراً حماه» (3 شباط)، لافتة تقول: «يا حلب.. والله العزّ بيلبقلك». باعتبار اللافتة مؤشراً، يرجّح أن تتوقف حناجر المنتفضين عن ترديد شعارات من قبيل «يلي واقف ع جنب… ضب غراضك ع حلب»!
كان للتحوّلات الكبيرة التي شهدتها العاصمة الاقتصاديّة لسوريا منذ مطلع الثمانينيات، والتي من أهمّها تحويل نمط ارتباطها مع السلطة على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والدينية، تأثير في زيادة «ثقل المدينة» بالمعنى الذي يحيل إلى زمن الاستقرار السوري الشهير، السابق على الخامس عشر من آذار؛ زمن الموت البطيء!
عن حلب وموقعها، البعيد نسبياً، عن الثوّرة، عن الأسباب والخلفيات، وعن شهداء الحريّة في حي المرجة، يتحدّث أحد الناشطين في المدينة.
 حلب: تنتفض.. لا تنتفض!

كان يوماً مميّزاً في حلب. الدماء التي سالت في حي المرجة وضعت حلب في مركز التغطيّة الإعلاميّة التي يشكو ناشطو المدينة من ضعفها عموماً. يقول الناشط الحلبي «من جامع «مقر الأنبياء» خرج الناس استعداداً للانطلاق في تظاهرة، وكان هناك ما يقارب 25 من الشبيحة المسلحين بالروسيات من عائلة لزّمت، بحسب الناشط، التشبيح في هذه المنطقة، بالتنسيق الكامل مع الأمن». ويضيف: «بدأ هؤلاء بالتعدي على الخارجين من المسجد وضربهم بأعقاب الأسلحة التي يحملونها، وبعد خروج المتظاهرين وتجمعهم عند أحد المفارق المجاورة للجامع بدأ الشبيحة بالهجوم عليهم، وطعنوا العديد منهم فسقط فوراً ثلاثة شهداء. عندها ثار الأهالي في الحي وعلت الهتافات وخرجوا في تظاهرة غاضبة في جهة أخرى من الحي، ففاجأ الشبيحة هؤلاء المتظاهرين بإطلاق الرصاص الحي عليهم ليسقط أربعة شهداء جدد بالإضافة إلى أربعين جريحاً».
وأمام الحشد الهائل والغاضب من أبناء الحي، يقول الناشط، بدأ بعض الشبيحة بالهرب، وتمكّن المتظاهرون من الوصول إلى دوّار المرجة حيث «قذفوا بالحجارة صوراً لرأس النظام، فما كان من عناصر الأمن سوى أن فتحوا النار عليهم، فأردوا شهيدين آخرين. واستمر إطلاق النار أكثر من ربع ساعة بشكل مجنون وعشوائي من قبل الأمن، ودخلت المنطقة بأكملها في حالة من الغليان والغضب والرعب، واستمر ذلك حتى اليوم التالي حيث جرى تشييع الجثامين، لتعاود قوات الأمن إطلاق النار لتفريق المشيعين».
في اليوم التالي، وهو ما يدعوه الناشط «يوم الحسم» في جامعة حلب «استطاع أحرار المدينة بعد انطلاقة قويّة من ساحة الجامعة الوصول إلى مدخل حي الجميلية الذي لا يبعد سوى القليل عن ساحة سعد الله الجابري؛ الساحة التي كانت وما زالت الحلم الذي ينتظر كل ثائر حرّ في حلب أن يستعيدها».
بموضوعيّة، يقرّ الناشط الحلبي بعدم إمكانيّة وصف حلب بأنّها «مدينة ثائرة»، لكنّه في المقابل يؤكّد أن الدراسات الإحصائية التي يقوم بها مع غيره من النشطاء منذ الثامن عشر من شهر تشرين الثاني (جمعة طرد السفراء)، والمتعلّقة بتقدير حجم دخول حلب على خط الثوّرة، تقول «إن عدد المتظاهرين في حلب، التي تشهد، خمس تظاهرات يوميّاً، يتصاعد، نتيجة لكسر حاجزي الخوف والصمت لدى شرائح جديدة مع ازدياد المشاكل الاقتصادية والحلول الدمويّة التي يتبعها النظام». ويعتبر أن عدد المتظاهرين لا يجوز أن يكون المؤشر الوحيد لتقييم حجم الحراك في حلب، معلّلاً ذلك بالقول: «خروج المتظاهرين العزّل من دون أية حماية، أضف إلى ذلك أن مشاركة النساء غير ممكنة، وإن فعلن فلا يستطعن المشاركة دائماً في جميع التظاهرات، ولا ننسى دعم التجار المؤيدين للثورة مادياً مع حفاظهم على سريّة هذا الأمر. وبالنتيجة فإن الحجم الفعلي للحراك هو أكبر ممّا يعتقد البعض». ويضيف «أنّ المزيد من التظاهرات ستحدث في حلب خلال الأيام القادمة وبالذات في أحياء المرجة والصاخور وهنانو والميسر وغيرها من الأحياء التي تعد الخزان البشري الأهم في المدينة».

«المتروبول»: السلطة والثروة

يُرجّح أن يكون المدخل الأنسب لتفسير تموضع حلب السياسي اليوم هو الرجوع إلى تاريخ علاقتها بالنظام الحاكم، نظام «الأسد للأبد»، والتحولات التي شهدتها هذه العلاقة. فحلب «الثمانينيات»، التي نالها ما نالها من فظائع النظام في سياق حربه المفتوحة على المجتمع السوريّ أوّلا، وفي مواجهة العنف الدموي «للطليعة المقاتلة»، الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين ثانيّا، هي قطعاً مختلفة جداً عن حلب اليوم.
يركّز الناشط الحلبي في تفسيره لضعف المشاركة الحلبيّة في الثوّرة على ثلاثة عوامل متداخلة: المؤسّسة الدينية الرسميّة، العشائر، الوضع الاقتصادي. من دون أن ينسى ما يمكن وصفه بأنّه سبب «تقني»، والمتمّثل بالقبضة الأمنيّة المرعبة التي تسيطر على المدينة.
يقول: «يمكن اعتبار طبقة علماء الدين أحد أجزاء المؤسسة الأمنيّة للنظام التي شكّلها لملء الفراغ الذي خلّفه القضاء على حركة الإخوان المسلمين في عام 1982». ويضيف: «كانت حلب المصدر الأول للخطاب الديني المعارض للسلطة في الثمانينيات. وبعد سحق الإخوان المسلمين عملت السلطة على التصالح مع المؤسسة الدينية. وبدأ انتشار المساجد والمدارس الشرعية. كان التعبير الأبرز عن مصالحة حلب بالنظام هو ترّشح رجل الدين البارز أحمد حسون وحلوله أولا في انتخابات مجلس الشعب العام 1990. وكان ثمّة من يقول إن «أحداث الثمانينيات» قد أقصت حلب عن الكعكة الاقتصاديّة لسوريا، وبات من الضروري للتجار ورجال الدين أن يسترجعوا حصّتهم. وقد تمّ تتويج المصالحة بتعيين حسون مفتياً عاماً للجمهوريّة».
يفسر هذا ما يقوله الناشط الحلبي عن غياب أسماء دينية كبيرة تجهر بمعارضة النظام، واقتصار ذلك على «بعض الرموز الدينيّة في الأرياف والمناطق الشعبيّة، حيث التشابك المصلحي بين رجل الدين والنظام أقل وتواصله مع الجمهور أكبر».
من جهة أخرى، يعتبر الناشط أنّ تأثير العشائر على حراك المدينة يمثّل «مفتاحاً لتوضيح موقع المدينة من الثوّرة، لا سيّما في مرحلتها الأولى». يقول: «لعبت عشائر حلب دوراً معاكساً تماماً لدور العشائر في مدن سوريّة أخرى، من خلال دعم الأخيرة للثوّرة وتأمين استمرارها وتصاعدها». ويفسّر ذلك باختلاف وضع المدينة الاقتصادي، يشرح: «حلب المدينة، المتروبول، ذات الثلاثة ملايين نسمة، لا تضمّ عشائر متماسكة، ويحتلّ الاحتكار مكاناً بارزاً في اقتصادها». ولكن كيف لكلّ ذلك أن يؤثّر على علاقة المدينة بالثوّرة؟! يجيب الناشط: «حاول النظام منذ 1990 أن يمثّل حلب سياسيّاً بجهات عشائريّة وطائفيّة». ويضيف: «من القصص ذات الدلالة أنّه في انتخابات 1998 اختلف جناحا عائلة حلبية كبيرة متهمّة بممارسة التشبيح على التمثيل، فتمّ حل المشكلة بأن مُثل طرفا الخلاف في العائلة». بمثل هذه التسويات نجح النظام في ضمان ولاء العشائر الحلبيّة، وتحديداً حين منحها السيطرة على قطاعات اقتصاديّة مثل «النقل، التهريب، المخدرات، وصولاً للبسطات»، كما يقول الناشط.
أما عن الوضع الاقتصادي للمدينة، فقد لعب الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ بصدور قوانين الاستثمار، والذي شهد تحوّلا نوعيّاً في عهد الوريث الابن دوراً في زيادة ارتباط طبقة رجال الأعمال مع النظام. يقول الناشط: «كان أفضل تعبير عن علاقة رجال الأعمال الحلبيين بالنظام هو احتلالهم لمعظم مقاعد المستقلين في مجلس الشعب العام 2007». ويضيف: «برغم التناقضات، إلاّ أنّه في اللحظات المصيريّة كان واضحاً أن النظام يُحكم سيطرته عليهم وأنّهم لم يشكّلوا طبقة مستقلة». وهؤلاء بحسب الناشط هم من يقومون اليوم بتمويل الشبيحة.
من جمعة إلى أخرى، يزداد عدد المتظاهرين في حلب، يرتفع عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين. وفي لحظة ما قد تلغي الثوّرة كل ما نركن له من تحليلات، ربما لأنّها ثورة، وربما لأنّ ثمّة من يقول: «الثوّرة عز»، وثمّة من يعلن: «يا حلب.. والله العز بيلبقلك». 

السابق
باسيل…
التالي
متل ما شِلتا فيك تشيل الزبالة