هل تخلَّت روسيا عن البرغماتية؟

يُشبه موقف موسكو من الاحداث الدامية التي تجري في سوريا، الموقف الذي إتخذتهُ واشنطن في العام 2009 من العدوان الاسرائيلي على غزَّة. حينها عَمِلت الدبلوماسية الاميركية بكل جهدها لمنع مجلس الامن الدولي من اتخاذ قرار يُوقف العدوان ، ويُدين الهجمات الوحشية على المدنيين الفلسطينيين. وقد اجهضت المشروع الذي قدمته المجموعة العربية، الى ان صدر القرار1860، الذي اوقف اطلاق النار، وتجنب الاشارة الى ارتكاب جرائم حرب ، وجرائم ضد الانسانية، اكد حصولها تقرير «فينوغراد» فيما بعد. كان الموقف الاميركي محل امتعاض الدول العربية وشعوبها برمتها، وسبب جفاء في العلاقات التركية- الاميركية.
ايدت موسكو حينها المشروع العربي – كما هو عليه حال المواقف الروسية الدائمة التأييد للقضايا العربية ، خاصةً في مجلس الامن –
السبت 4/2/2012، استخدمت موسكو، ومعها بكين، الفيتو ضد مشروع القرار العربي- والذي حصل على تأييد معظم الدول الاعضاء في مجلس الامن-. شكل هذا الموقف مفاجأة للاغلبية الساحقة من الشعوب العربية، لأن هذه الشعوب اعتادت على مواقف متعاطفة من قبل موسكو، وهي تحفظ لها هذا الجميل. ساد جو من الامتعاض الشامل من القرار الروسي ، لأنه جاء على شكل تحدي لإرادة عربية جامعة، وكونه يُعبرُ عن مشروع يهدف الى وضع حد لمأساة انسانية يتعرَّض لها الشعب السوري منذ اكثر من عشرة اشهر، من جراء استخدام النظام للعنف في مواجهة الثائرين عليه، وسقط بسبب هذا العنف ما يُناهز العشرة الاف قتيل.
اصدقاء روسيا (كما غير اصدقاءها) في الاوساط العربية، اثارهم الموقف، ولم يجدوا ما يمكن ان يقولوه دفاعاً عن هذا القرار، خاصة ان هؤلاء كانوا يُعوِّلون على تحرك موسكو بإتجاه وضع حد لاستخدام العنف من قبل النظام ضد المدنيين ، وقبل ان تستفحل الامور، لأن البرغماتية السياسية التي غلبت على السياسة «البوتينية» في موسكو منذ اكثر من عشر سنوات، تقضي بالمراهنة على الشعب ، وليس على النظام، في حفظ مستقبل المصالح الروسية الهامة في سوريا.
صحيح ان روسيا لا يمكن ان تذهب بعيداً في موقفها المدافع عن النظام في سوريا، وهي ستعود الى مراعاة المشاعر العربية والدولية المُمتعضة من تغطيتها لمجازر وارتكابات، لا يُمكن تَحمُّلها. كما لا يمكنها ان تُقنِعَ احداَ في دفاعها عن الديمقراطية والديكتاتورية في وقتٍ واحد.
يعرف الجميع ان التجاذبات الدولية، ومصالح موسكو العليا تَقِفُ خلف توجهاتها فيما يتعلق بالملف السوري، وهي أقنعت الصين بمراعاة موقفها، لأن هذه الاخيرة متخوفة الى حدٍ كبير من الاستدارة الاميركية نحو تعزيز نفوذها في وسط وشرق آسيا. والصين تحتاج الى مساندة روسيا للوقوف في وجه الهجمة الاميركية هناك.من حق روسيا أن تُدافع عن مصالحها ، وعن مكانتها الدولية التي تعرَّضت للتهميش في ليبيا وتونس واليمن. وهي في الوقت ذاته تُواجهُ محاولات جديدة لتطويقها بذراع عسكري، يرتكز على انشاء الدرع الصاروخي على اراضي دول قريبة من حدودها، وهي غير مُقتنعة ان المشروع موجه ضد ايران فقط. كما ان خط السيل الجنوبي «نابوكو» الذي دعمت انشاءهُ واشنطن لنقل النفط والغاز من محيط قزوين الى اوروبا – بدون المرور بالاراضي الروسية – يُشكلُ تهديداً لمصالحها الاستراتيجية، سيما ان المعلومات التي تَحدَّثت عن وصل تمديدات الغاز القطري بهذا الخط عبر العراق، لم تَعُد سراً.
استفزاز الروس، من قبل بعض الاوساط الدولية والعربية، كان خطأً كبيراً في هذا الوقت بالذات، وليس من الحكمة تَهميش دورها، ودفعها للشعور بشيء من العزلة في الشرق الاوسط؛ المنطقة الحيوية لمصالحها ، ولأمنها في آن ٍ واحد. وهذا ليس بجديد في الاستراتيجية الروسية. فهذا التوجه قد يكون احد الثوابت السياسية المشتركة بين الحقبة القيصرية، والحقبة الشيوعية (السوفياتية) وحقبة الاتحاد الروسي الحالية.
هل يبرر كل ذلك لموسكو موقفها الحالي المُتشدد تجاه الازمة السورية؟
الموقف الروسي، وخاصةً في مجلس الامن – والذي جاء بعد اجتماع بين وزير الخارجية سيرغي لافروف ووزيرة الخارجية الاميركية في ميونخ – شكَّل انعطافة قد لا تكون تكتيكية، وهو في ما لو استمرَّ يُعتبرُ مؤشِّراً بالغ الاهمية لتغييرات جوهرية في نمطيةِ التعاطي الروسي مع الملفات الدولية، وقد يحملُ بُذوراً لحرب باردة جديدة بينها وبين الصين من جهة وبين الغرب من جهة ثانية، واللهجة القاسية التي استخدمها مندوبي واشنطن وباريس ولندن في جلسة مجلس الامن ضد موقف موسكو، رسمَ صورةً لتجاذبات دولية، لم يعرفها العالم منذ فترة طويلة.
كل ذلك يحصل في ظلِّ اجواءٍ غير مُريحة تواجه فلاديمير بوتين في روسيا، فهناك اتهامات واسعة له بتزوير الانتخابات التشريعية التي حصلت الشهر الماضي، والمظاهرات التي تُنددُ بسياسته تجوب الشوارع، وفوزه بالانتخابات الرئاسية في آذار القادم غير مؤكدة ، أو أقلهُ لن تحصل بالسهولة التي تمت بها منذ العام 1999. وفي ذلك العام ضرب بوتين الاسلاميين المتشددين في الشيشان بيدٍ من حديد، فتوُّجَ بطلاً في الكرملن، لأن تفجيرات هؤلاء الارهابية وصلت الى شوارع موسكو في حينها.
يبرز تحدي مشابه، امام بوتين، وتدور تحليلات حول عدم ارتياحه من وصول التيارات الاسلامية للحكم في الدول العربية، وقد يؤدي الامر الى تقوية التيار المتطرف في اوساط المسلمين الروس ، الذين يُشكلون حوالي 20% من المواطنين. وهو يخشى على ما يبدو من التعاون الذي بدت ملامحه واضحة بين هؤلاء الاسلاميين وبين الغرب، وخاصةً الولايات المتحدة الاميركية .
هذه المؤشرات تطرح مجموعة من التساؤلات، لعلَّ اهمها: هل تخلّى بوتين عن البرغماتية في ادارة السياسة الخارجية الروسية، واستبدالها بسياسة التشدُّد التي اعتمدها اسلافهُ الشيوعيين؟ وهل قرر التضحية بصداقاته العربية من اجل استثمار هذه الخسارة ربحاً في معركة الانتخابات الرئاسية في الربيع القادم؟ ام انه سيدفع مرغماً ثمن هذه الاستدارة (في ما لو استمرَّت) من رصيده الشخصي ومستقبله السياسي المُهدد؟
هذا ما ستُبيِّنه الايام القادمة ، في ضوء تطورات الاحداث السورية على وجه الخصوص.  

السابق
تنويم ميقاتي لحكومته انحناءة متعمّدة
التالي
الطفيلي لم يتطفّل على نصرالله