غير المرئيّ في الموقف الروسيّ

تبدو موسكو اليوم محافظة على الوضع العربيّ القائم، بالغة التشدّد في دفاعها عن أنظمته. وحين تتذكّر أنّ ليونةً ما شابت موقفها من إسقاط القذّافي تعلن الندم والأسف ثمّ تعوّض بدعم الأسد. وهي تستعير في كلامها عن الثورات لغة فاضحي «المؤامرات» العرب، كما تُخرج من أرشيفها اللينينيّ-الستالينيّ بعض درر الأدب التآمريّ.

لكنّ روسيا السوفياتيّة كانت عنصر دعم للمتمرّدين على الوضع القائم والمنقلبين عليه. وفي عرف موسكو تلك بدا كلّ جديد خيراً من القديم، بغضّ النظر عن طريقة الاستبدال وفي معزل عمّا إذا كان هناك أفق واضح لبديل واضح أو لم يكن.

أغلب الظنّ أنّ ما تغيّر في هذا المجال يخصّ مفهوم الثورة نفسه أكثر ممّا يخصّ التحوّل من السوفياتيّة إلى الاتّحاديّة الروسيّة.

ذاك أنّ المفهوم المذكور لم يعد ما كانه بين الخمسينات والسبعينات: قبلاً كانت الثورة، وهي بالأحرى انقلاب عسكريّ، تعني أوّل ما تعنيه تبديلاً في الاصطفاف الاستراتيجيّ، بحيث ينتقل البلد الذي انقلب ضبّاطه من المعسكر الغربيّ إلى المعسكر الشرقيّ. أمّا الثورة الآن فنحّت هذه المسألة جانباً، جاعلة همّها ينصبّ على اكتشاف الداخل الوطنيّ لبلدها. هذا هو معنى شعار الحرّيّة الذي هو شعارها المركزيّ.

 وروسيا السوفياتيّة بدت مستفيدة من تحوّلات الحقبة الماضية لأنّها تؤسّس لها مكاناً ونفوذاً افتقرت إليهما في الزمن العربيّ المحافظ. فوق هذا فروسيا البوتينيّة كارهة للتحوّلات الجديدة الآيلة إلى إنشاء داخل للبلدان العربيّة. فهي تقليديّاً دولة قامعة لهذا النوع من الثورات في جوارها، وهذا تقليد يصحّ في القيصريّة التي قضت على «ربيع الشعوب»، وفي الشيوعيّة التي سحقت انتفاضات لا تُحصى في ألمانيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وسواها. لكنّه يصحّ أيضاً الآن، حيث اصطدمت روسيا البوتينيّة ببعض التحوّلات التي من هذا النوع في جوارها، كما ناصبت العداء أو الحذر بعضها الآخر. وإلى ذلك فثورات الداخل لن يكون همّها الأساسيّ مراكمة السلاح، وهذه هي السلعة الوحيدة التي توجِد روسيا في العالم كما توجِد لها موقع قدم مؤثّراً.

وذلك ما وجد تكثيفه في الصراع العربيّ – الاسرائيليّ بوصفه أولويّة المرحلة السابقة التي قامت على حساب الدواخل الوطنيّة وأولويّتها. فالانقلابات العسكريّة كان «تحرير فلسطين» في رأس وعودها، الكاذبة طبعاً. أمّا الحرّيّة فهي وعد الثورات الراهنة الأوّل والأخير. وهذا ما يفسّر أنّ الأنظمة العربيّة التي كانت تحالف واشنطن بين الخمسينات والسبعينات كان يُحرجها اصطفافها هذا لأنّه يدرجها في مقابل أولويّة التحرير المعلنة. ومعروف أن الفيتو الروسيّ اشتُهر يومذاك بوصفه سلاح حماية لعبد الناصر ضدّ إسرائيل والقوى الغربيّة. بيد أنّه يفسّر أيضاً انتقال الحرج، من دون أن ينتقل الفيتو، إلى بيئة «النزاع العربيّ – الاسرائيليّ أوّلاً». ذاك أنّ رغبة الوقوف إلى جانب موسكو باتت تصادم ما ترفضه شعوب عربيّة بأكملها. هكذا نرى أنّ مطلب المقاطعة مثلاً، والذي كان محصوراً بإسرائيل، وبين وقت وآخر بهذه الدولة الغربيّة أو تلك، يجد اليوم أصواتاً ترفعه في مواجهة الروس والصينيّين.

لا شكّ في أنّ موسكو تخاف الإسلام وتخاف مسلميها وإسلاميّيها معاً، وأنّها حذرة حيال تركيا واحتمالات كسبها مزيداً من النفوذ على حدود روسيا الجنوبيّة، كما أنّها تطمح إلى منافسة النفوذ الغربيّ أينما تمكّنت من ذلك، فضلاً عمّا يربطها من مصالح بالنظام السوريّ. هذه كلّها أسباب مرئيّة في تفسير الموقف الروسيّ. إلاّ أنّ السبب الآخر غير المرئيّ بما يكفي أنّ معنى الثورة تغيّر، وبتغيّره راحت تنشأ حسابات استراتيجيّة مغايرة لما عهدنا من قبل ممّا عُرف بـ «الصداقة السوفياتيّة العربيّة». 

السابق
الاخبار: الخليلان ينتظران نهاية الدلع
التالي
لافروف من دمشق: الفيتو منع مجلس الأمن من الانحياز وأوقف الحرب الاهلية في سوريا