الصراع السياسي بين كتلتين ثقافيتين عربيتين

الفنان الكبير عادل إمام هو من اليوم في قلب اكبر صراع ثقافي مؤثر في مستقبل العالم العربي والمسلم بعد اندلاع "الربيع العربي". كيف يبدأ انقسام النخب العربية الى كتلتين ثقافيتين كبيرتين في الصراع السياسي؟

لا أعرف اذا كنتُ حضرتُ كل اعمال عادل امام السينمائية الغزيرة ولكني بالتأكيد كالملايين من المشاهدين العرب بل عشرات الملايين حضرتُ عددا كبيرا من افلامه و معظم مسرحياته.
هذا الفنان صاحب اكثر الافلام الكوميدية تأثيرا في المساس بالقضايا الجادة جدا في مصر والعالم العربي في العقود الاربعة الاخيرة تراكمت اعماله من المشاركة في افلام عادية الى انتاج وتمثيل افلام ذات شخصية فنية مميزة وغير مسبوقة تطورت في اختياراته ومستواها الى حد جعلته مزيجا مصريا من وودي آلن ومايكل مور مع ثقافوية أقل من آلن. والى حد كبير تجاوز عادل امام احيانا في السنوات الاخيرة المخرج الكبير يوسف شاهين من حيث التأثير الاجتماعي والسياسي المصري والعربي رغم انهما بطبيعة الحال تقاطعا في الموقف النقدي من الاصولية الاسلامية: هو على طريقته في التعبير العميق عن شخصية المصري العادي وامتعاضاته وتحولاته الطبقية ويوسف شاهين برؤيا تاريخية ثقافية عبر عنها في فيلم "المصير"، وان كان عادل امام في انتاجه وادائه واداء زملائه الممثلين المميزين في فيلم "بناية يعقوبيان" قد تجاوز الاداة الكوميدية ليضع لمسته على الرواية التي قدمت المجتمع المصري في ما آل اليه في القاهرة نفسها قبل سنوات قليلة من انفجار الثورة التي ستحدث في ميدان التحرير ليس بعيدا سوى عشرات الامتار عن "البناية". انها البناية – الأمة التي رواها من سيتحول الى احد اكبر رموز الثورة، علاء الاسواني، والتي جعلني عادل امام استمتع بمشاهدة فيلمه عنها بقدر استمتاعي بقراءة نصها الاصلي. وهذا مختلف عن انطباعي الذي راكمته احيانا لصالح النص لا الفيلم من تجربة مشاهدة افلام عديدة عربية وأجنبية بعد قراءة الروايات التي تستند اليها وأخص منها على سبيل المثال "يوميات نائب في الارياف" لتوفيق الحكيم و"آنا كارنينا" لليو تولستوي، الدور الذي ادته في جيلين غريتا غاربو الاميركية عام 1935 ثم صوفي مارسو الفرنسية عام 1997.هذا الفنان الكبير نجده اليوم وقد اصبح في قلب اكبر صراع ثقافي – سياسي مؤثر في مستقبل العالم العربي والمسلم بعد اندلاع "الربيع العربي". انه الحكم الذي صدر في مصر ضده بدعوى من احد السلفيين حول عدد من أفلامه واحدى مسرحياته باعتبارها "مسيئة للاسلام" وقضى بحبسه ثلاثة اشهر فاستأنف عادل امام هذا الحكم فأُوقف التنفيذ. وطبعا من البديهي الترداد مع المدافعين عن عادل امام انها كانت ضد التشدد والتعصب وقطعا ليس ضد الدين.
صحيح ان الافلام موضوع الدعوى سبق ان أغضبت الاصوليين وبالتالي فان اثارة الموضوع ليست جديدة، لكن صدور حكم أولي سلبي فيها فتح الأعين والمخاوف على امكان تأثر القضاء المصري في زمن السيطرة السياسية للاصوليين بتوازن القوى الجديد لصالح موجة تضييق على "حرية الابداع" وهو التعبير الذي أصبح تعبيرا أزهريا في زمن الشيخ الدكتور احمد الطيب بعد صدور "وثيقة الازهر" الثانية مؤخرا من ضمن حشد نخبوي سياسي ثقافي، الوثيقة التي تبنت "حرية الابداع الادبي والفني" كاحدى الحريات الاربع الاساسية.

لهذا فان المعركة التي فتحت عبر عادل امام ليست من الماضي رغم ارهاصاتها السابقة بل هي من المستقبل قياساً بدخول المنطقة عصر تكريس زمن "الديموقراطية الانتخابية" ولو بأشكال متفاوتة انما اكبر سماتها حاليا هي نجاح الاحزاب الاصولية الاسلامية. وهذا سيعني ان المعركة الثقافية قد تصبح الاداة الاولى في رسم شخصية وحدود الديموقراطية السياسية العربية في الحقبة المقبلة. ودعونا لا ننسى ان نظام الاستبداد السابق فيما هو يقمع الاصوليين لمنع دخولهم او سيطرتهم على السلطة السياسية تنازل لهم وللعناصر المحافظة في المجتمع عن "السلطة الثقافية" فشجع او غض النظر عن فتاوى واحكام ضد نجيب محفوظ ونصر حامد ابوزيد وغيرهما.
انها معركة انطلقت اينما كان بعد "الربيع العربي" ولكن هذه المرة ليس بين الجيش والاسلاميين وانما بين النخب الليبرالية واليسارية والعلمانية وخصوصا الجيل الشاب وبين الاصوليين.

انها معركة تبدو حاليا بين من يمسك او أخذ يمسك بالاكثرية الشعبية وهم الأصوليون وبين من يمسك بنواصي الثقافة والاعلام والفنون وهم الاقلية ولكن الفاعلة لأن هذه القطاعات الابداعية الحديثة لم يستطع الاصوليون فرز نخب وكوادر مؤثرة ومكرسة فيها بشكل عام.
ولعل هذا التوصيف يصلح لتحديد "الكتلتين" الكبيرتين التاريخيتين اللتين ستتواجهان في مستقبل المنطقة على المستوى الثقافي السياسي وهو ما يحصل بهذا الشكل للمرة الاولى لأن مسرح المواجهة الآتي سيكون في البرلمان والشارع والقضاء والاعلام وكل المستويات المتاحة اذا بقيت اللعبة السياسية في الاطار السلمي.
واذا كان مضمون المعركة السياسية ذا اولوية ثقافية فقد تنعكس على الاقتصاد مثلما أخذ يظهر في لبنان وتونس ومصر في القطاع السياحي في ما سبق ان أسميناه "السلفية السياحية".
لن أفاجَأ اذا تحولت حركة الدفاع عن عادل امام الى تظاهرة عربية بل الى تظاهرات ستتبلور ليس فقط في بيانات ونداءات بل ايضا في اقامة مهرجان لافلام ومسرحيات عادل امام في كل عاصمة عربية ولمَ لا في عواصم اوروبية وغربية؟
كلنا (عادل) اماميون بهذا المعنى.  

السابق
جنبلاط حاول إقناع لافروف بتغيير موقفه من سورية…وشبيحة الجبل يقاتلون ضد الثوار!!
التالي
الانباء: الجيش اللبناني ينفذ عملية نوعية في وادي خالدونواب الشمال ينتقدون ويحذرون