بناء المستوطنات لن يتوقف

من بين فيض العقبات التي تعترض السلام في إسرائيل ـ فلسطين، غالباً ما يُشار وبحق، إلى المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحـتلة على أنها العــقبة الكأداء الأكثر استعصاء على الحل. هذا علاوة على أن جمـيع التحـليلات الواقعـية بـشأن حل دائم لدولتين في فلسطين الانتـداب، تقرر ان مستوطنات الضفة الغربيـة تمــزق التواصل الجغرافي لدولـة فلسطـينية إلى الحد الذي يجعلها غير قابلة للحـياة، وتصل إلى اقتناع مفاده ان المستوطنات كلها أو معظمها يجب إما أن تُزال، وإما أن «تفكك» أو تُسلّم إلى الفلسطينيين كي يستخدموها. وإذا ما وضعنا في الاعتبار ان إقـامة دولة فلسـطينية قابلة للحـياة في إطار حـل الدولتين هو من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، فإنه من المحيّر لكثير من المراقبين ان تواصل المستوطنات التوسع والتمدد. وبالنظر إلى ان الدبلوماسية الدولية تفهم أسباب هذا النمو الاستيطاني المتواصل، فإنها بقيت تحت تأثير وهْم ان بناء المستوطنات قد يتوقف.
والواقع أن إزالة المستوطنات، أو حتى تجميد نموّها، أمران يجب عدم توقعهما. كما ان استمرارية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والقدس الشرقية ستؤدي إلى حل الدولة الواحدة على كامل أراضي فلسطين الانتداب. إن الوقوف على هذه الحقيقة يستلزم إدراك الأسباب التي تجعل هذه المستوطنات دائمة. بعض أسباب ديمومتها معروف تماماً ويمكن تلخيصه بإيجاز، إلا أن الأسباب الأعمق والأقل وضوحاً، أي الدوافع الحقيقية الحافزة على بناء المستوطنات، تتطلب نقاشاً أكثر تعمقاً.

ديمومة المستوطنات

السبب الأول والأوضح لاعتبار مستوطنات الضفة الغربية راسخة ودائمة يكمن في هدفها المعلن أنها ستكون دائمة. وقد كُتب الكثير عن المستوطنات، ويُمكن اليوم إيراد عدد كبير من المصادر المتعلقة بأهدافها، لكن أكثر التعبيرات إيجازاً يبقى «الخطة الرئيسية لتنمية الاستيطان في يهودا والسامرة 1979 ـ 1983»، التي صدرت العام 1978 عن المنظمة الصهيونية العالمية. هذه الخطة، التي وضعها رئيس هذه المنظمة ماتيتياهو دروبلس، وغالباً ما يُطلق عليها اسم خطة دروبلس، شكلت المظلة العامة لجميع الخطط الرئيسية التي تلتها للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. واليوم، ما تزال دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية هي المخطط الرئيسي لمستوطنات الضفة الغربية (ولكن بشكل معدل إلى حد طفيف، بعد اندماجها في دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية). كما ان المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية تعملان في هذا المجال كـ«وكالتين مخولتين» من جانب دولة إسرائيل وفي ظل القانون الاسرائيلي. وبالتالي، تُعتبر مقدمة خطة دروبلس محورية لفهم الهدف الاستراتيجي للمستوطنات ولطبيعة تصميمها، وأيضا لكيفية تشكلها في سياسة دولة إسرائيل:«الاستيطان في أنحاء أرض إسرائيل برمتها هو لأسباب تتعلق بالأمن وحقوق اليهود، فشريط من مستوطنات مبني في مواقع استراتيجية يعزز كلاً من الأمن الداخلي والأمن الخارجي على حد سواء، هذا إضافة إلى أنه يجسّد ويحقق حقنا في أرض اسرائيل.
… يجب ان نضع في الاعتبار ان الغد سيكون متأخراً كثيراً لفعل لا يتم عمله اليوم… ثمة أشخاص اليوم يافعون او عندهم روح الشباب يقبلون بالتحدي المتعلق بتحقيق الأهداف القومية، ويريدون الاستيطان في يهودا والسامرة. يتعين علينا تمكينهم من ذلك، وخير البِر عاجله».
فصّلت خطة دروبلس خرائط الكتل الاستيطانية التي لم تكن قد وجدت بعد، لكنها تسيطر على المشهد الآن: ريحان، معاراف، شومرون، كيدوميم، كرني شومرون، أريئيل، غوش عتسيون، جيفون، موديعيم وغيرها. وقد تم شرح النمو الاستراتيجي لهذه المستوطنات بوضوح:
«تنظيم الاستيطان المقترح سيُنفّذ وفق سياسة استيطان لكتل من المستوطنات في مناطق استيطانية متجانسة تكـون مترابطة في ما بينها، وهو ما يسمح مع الوقت بتطوير خدمات مشتركة ووسائل إنتاج. علاوة على ذلك، وفي أعقاب توسّع وتتطور المستوطنات الجماعية، قد يندمج بعضها، مع مرور الوقت، في مدينة يمكن أن تتكون من جميع المستوطنات في تلك الكتلة».
بيد ان ضمان توفير المستوطنات للمهاجرين اليهود من أوروبا وأميركا الشمالية بمستلزمات معيشة توازي مستـوى العالم المتـطوّر، تطلب أيضاً إدارة غير منصفة للموارد الطبيعية، خاصة الماء، إذ إن مثل هـذه الاجــراءات لا يمكن تنفيذها بدون إلحاق الأذى والضرر بالنسيج الاجتماعي الفلسطيني من خلال تقييد حركتهم واستخدامهم للأرض بالطريقة التي سمحت في الماضي بنمو اقتصاد فلسطيني معافى.
وهكذا، ليس الوجود المادي للمستوطنات في الضفة الغربية هو فقط ما يشكل عقبة امام السلام. ومع أنها غير شرعية وفق القانون الدولي الإنساني، كان يمكن ان يكون وجودها أقل تدميراً لآفاق اتفاقية سلام مستقبلية لو كان النمو يمثل نوعاً من العملية العفوية للاستيطان المدني المرتبط بشكل عضوي بالبلدات والقرى الفلسطينية المجاورة، في إطار التنمية الريفية المتعارف عليها في أماكن أخرى. مثل هذه العملية كانت ستقود مع الوقت إلى ضم كامل للأراضي وبالتالي إلى حل الدولة الواحدة. بيد أن الإدماج التام للسكان في ظل الاحتلال هو بالتحديد ما ترغب إسرائيل في تجنبه. وبالتالي، تم اختيار مواقع المستوطنات وبناها التحتية بشكل وبطريقة يستبعدان حل الدولة الواحدة، في الوقت الذي يجعل من حل الدولتين والسماح بقيام دولة فلسطينية مقبولة أمرين مستحيلين. أما كيف تحقق المستوطنات هذا الهدف المزدوج والحاسم بالنسبة إلى مصالح اسرائيل، فهذا هو السؤال الذي يتطلب اهتماماً أكبر، لأنه يفسر كلاً من أسباب ديمومة المستوطنات وحقيقة ما تعنيه بالنسبة إلى أية اتفاقية سلام، كما سنناقش لاحقاً.
السمة الثانية التي تشي بديمومة المستوطنات، والمعترف بها بشكل أوسع، هي تأثير المستوطنات في خط الهدنة للعام 1949 أو «الخط الأخضر». فالخط الأخضر يرسم الحدود المعترف بها دولياً بين اسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي الأراضي التي تعتبر وفق القانون الدولي خاضعة للاحتلال العسكري الاسرائيلي. ولذلك، فإن الخط الأخضر في عُرف الدبلوماسية يرسم الحدود التي تحدد الأراضي التي يجب ان تخليها اسرائيل في خاتمة المطاف ويقيم فيها الفلسطينيون دولة. بيد أن النمو الاستيطاني يطمس هذه الحدود بشكل منهجي. وفي مشارف القدس، تم إنجاز هذا المحو والطمس عبر بناء سلسلة غير منقطعة من المستوطنات إلى درجة القضاء على إمكانية استعادة الحدود على نحو ذي معنى.
ولذا، فإن قلة من الناس الذين شهدوا حجم الاستيطان الذي يحف الآن بالخط الأخضر، تعتقد ان خيار الدولتين ممكن من دون تعديلات أساسية في الخط نفسه. هذا الواقع تبنّته الدبلوماسية الدولية حين أيد الرئيس جورج بوش الابن رسمياً في العام 2004 مبدأ إدخال تعديلات على الحدود، ولم يجرِ حتى الآن التراجع عن هذا المبدأ.
لكي تكون مثل هذه التعـديلات مقبولة سياسياً لدى الفلسطينيين، الذين قدموا تضحيات قصوى حين تخلوا عن المطالبة في أراضٍ داخل إسرائيل، يتمّ الحديث عن «تبادلات» في الأراضي تكون متساوية في الحجم تقريباً. أي: تكون أيـة رقـعة أرض داخل الضفة الغربية تُنقل بشكل دائم إلى إسرائيل موازية تقريباً لرقـعة الأرض التي تنقل من اسرائيل إلى دولة فلسطين. وسواء أكانت التبادلات متساوية تماماً أم لا، فإن التعديلات المتبادلة تبدو للوهلة الأولى عادلة وممكنة.
بيد أن مبدأ التبادل يصبح أكثر صعوبة حين يتعلق الأمر بكتل الاستيطان الواقعة في عمق الضفة الغربية، مثل المستوطنة أريئيل (عدد سكانها حوالى 25 ألفاً)، قرب نابلس، إذ ان أي تعديل حدودي يضم أريئيل إلى إسرائيل يتطلب أن تضم هذه الأخيرة لساناً طويلاً من الأرض يتوغل بعمق في قلب شمال الضفة الغربية ويقسمها إلى شطرين، شمالي وأوسط. وقد اقترحت إسرائيل نظاماً من الأنفاق والجسور قالت إنه قد يساعد على تقليص تأثر تحرك الفلسطينيين، ويعـيد تواصل التنقل. بيد أن التأثير الحاسم بالنسبة إلى فلسطين يمكن إدراكه إذا ما افترضنا تبني إجراء مماثل: على سبيل المثال، لسان من السيادة الفلسطينية يمتد في عمق اسرائيل ليضم مدينة الناصرة ذات الأغلبية العربية في الجليل الأوسط، وهو ما لن يكون مقبولاً البتة لدى إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، فإن درجة الفشل في التبادل تتزايد كلما اقتربنا من القدس. ففي «حلقة المستوطنات» الاستراتيجية المحيطة بالمدينة، أصبحت «الأحياء» اليهودية كثيفة إلى درجة أنه بات من الصعب معها فرض تقسيم حدودي واسع ملائم للبؤر الفلسطينية التي تحيط بها هذه الأحياء. ومرة أخرى، سيحتاج الأمر إلى نظام واسع من الأنفاق والجسور، وتعديلات كثيرة على الحدود، كي يتاح للفلسطينيين الانتقال من حي إلى حي. لكن، إذا ما وضعنا في الاعتبار تواصل البناء الاسرائيلي لهذه المستوطنات (وللبنى التحتية والطرق الدولية وشبكة الطاقة التي تدمجها في القدس الكبرى وفي إسرائيل نفسها)، فإن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي ضم «خاصرة» الضفة الغربية الوسطى برمتها إلى إسرائيل. وهكذا، فإن مبدأ التبادلات الذي سيخضع لميزان القوة، بالإضافة إلى الحقائق الجغرافية، يجعل من تبادل الأراضي جريمة لتفكيك الضفة الغربية الفلسطينية إلى كانتونات.
عن العقبات التي تعترض انسحاب اسرائيل على نطاق قد يقلل من شأن هذه الصعوبات معروفة تماماً. وأكثر هذه الصعوبات، كما تدعي اسرائيل، هو عامل الأمن. فإسرائيل، جدلاً، ستكون أكثر أمناً في حال قيامها بتسليم الضفة الغربية إلى دولة فلسطينية، لأنها تنزع بذلك فتيل التهديدات المرتبطة بالصراع، وتزيل الحاجة إلى منطقة عازلة لصد هجوم عربي مجاور. ومع ذلك، ثمة قطاع كبير من الرأي العام اليهودي ـ الاسرائيلي يعتقد ان الأراضي حاجز حيوي لصد مثل هذا الهجوم، لأنه متأثر بالدعاية الحكومية المتواصلة بأن اسرائيل تعيش في ظل تهديد دائم بالإبادة. ووفق وجهة النظر هذه، ليس وارداً، على سبيل المثال، التفاوض بشأن حزام واسع حول القدس تمارس فيه السيطرة الاسرائيلية، ولا بشأن احتفاظ إسرائيـل بسيـطرتها علـى وادي الأردن (هذه الحجة تستعملها إسرائيل على رغم فجواتها الواضحة، مثل: ليس من الواضح البتة من هو الجيش الإقليمي الذي يمكنه مهاجمة اسرائيل من الشرق، وكيف يمكن للضفة الغربية الصغيرة ان تشكل حاجزاً ضد هجمات بالصواريخ، علماً بأن هـذا السلاح يشكل الخطر الأساسي على أمن إسرائيل). وثمة مسألة جغرافية لـها علاقة بهـذا الموضوع تدعى أحياناً «الأمن المـائي»، إذ ليس في وسع حكومة فلسطينية ان تعمل بفعالية بدون استعادة السيطرة على المياه الجوفية المتناقصة في الضفة الغربية، لكن هذه الأخيرة حيوية لاحتياجات إسرائيل المائية التي تتعرض لضغط شديد على نحو متزايد. ولذا، لا تستطيع اسرائيل التخلي عنها، ولن تفعل.
كما أن الأكلاف الاقتصادية والسياسية للانسحاب عسيرة هي الأخرى، فعلى الصعيد الاقتصادي، تفوق قيمة شبـكة المسـتوطنات في الضفة الغربية حالياً آلاف المرات قيمة شبكة المستوطنات التي أقيـمت في قـطاع غزة، حيث كلف الانسحاب إسرائيل ثلاثة مليارات دولار في شكل تعويضات وأكلاف هدم. وبالتالي ستكون أكلاف الانسحاب من الضفة الغربية وإزالة شبكة المستوطنـات فيها أكبر من أية موارد يمكن تخيلها (استراتيجياً، ربما تكون الحكومة الإسرائيلية قد عملت على رفع الأكلاف في الضفة الغربية إلى هذا الحد من أجل تشجيع انتشار هذه المقارنة المثـبطة. مع ذلك، من غير الممكن تجـاهل هذه السابقة).
هذه المعطيات التي وردت واضحة كلها. ومع ذلك، فإن أياً منها لا يبدو أنه يستبعد انسحاباً اسرائيلياً من مستوطنات الضفة الغربية إذا ما كانت الظروف مواتية، فبالنسبة إلى المراقبين داخل اسرائيل وخارجها، يبدو تحليل التكلفة ـ الجدوى واضحاً ومقنعاً: إذا كانت الفائدة لإسرائيل من وراء إزالة المستوطنات هي سلام شامل، وإذا كان بديل السلام هو نهاية حل الدولتين الذي يسمح ببقاء دولة يهودية، فقد تقوم حكومة اسرائيلية عاقلة وذات بُعد نظر، وتتوافر لها الإرادة السياسية وحس القيادة، بإزالة المستوطنات والانسحاب من الضفة الغربية. بيد ان هذا الاعتقاد الواسع الانتشار مخطئ إلى حد بعيد، لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الأسس الاستراتيجية لبناء المستوطنات اليهودية.  

السابق
العلمانية ليست ديناً ولا تصلح للعبادة
التالي
جادة بري:عبورها يشكل كابوساً