تلميذة مصابة بملل دافئ

اكتشفت اليوم أنها تحبّ أشياء كثيرة، وأنها في بعض الأحيان خفيفة، وأنها تحبّ الشوكولا مع الريح، والشاورما مع المطر، وبأنها ككلّ النساء تقضم أظافرها من الرغبة، وبأنها كائن عادي لا يمتلك شيئا، ولا يريد سوى أن يتحدّث.
اكتشفت اليوم أنها فتاة بسيطة، لا تمتلك الطاقة لشراء حذاء أو سروال، أنها تلاشت من كثرة الملل، وأنها تبكي كالأطفال، وتنزعج كالأطفال، وتهوى ركوب الدراجة ولا تهوى الكبر.
اكتشفت اليوم أن ذاكرتها وأفكارها ورغباتها مكنونة في أصابعها، وأنها حين تملّ تصبح رقيقة وغير مباليّة، هي غير مباليّة.

لا تبالي اليوم بأقوال سائق التاكسي، ولا تبالي بأحاديث الزميلات، ولا تبالي بموقعها على الأرض، فهي مستعّدة لكي تستغني عن نصف المساحة التي تحتلّها على الأرض، لا تريد أن تتبخّر، لكنها ستستغني عن نصف المساحة التي تمتلكها.
 اليوم، لا تبالي بشيء، رأسها مسكر من الملل، الملل يسكر في بعض الأحيان وعلى درجة معيّنة يصبح الملل دافئا، الملل دافئ في بعض الأحيان كالنبيذ.
اكتشفت اليوم أنها لا تبالي بشيء.
منذ صغرها، كانت وحيدة، تجلس على درج المدرسة وتقرأ وحدها، منذ صغرها كانت لطيفة، يحبّها الكثيرون ويقدّرها الكثيرون وتعرف أنها لذيذة. كانت تكره مساء الجمعة، حين ترجع إلى البيت، لا تجد ما تفعله، لا تجد رفيقا أو رفيقة، وتبدأ بالبكاء، هي كانت تلميذة مهذّبة ومجتهدة ورصينة، هذا ما كانت تدوّنه معلمة اللغة العربيّة على دفتر العلامات خلال ثلاث سنوات، كانت تتساءل في نفسها لماذا لم تنتبه المعلمّة إلى صفات أخرى، ولماذا لم تغيّر المعلمّة ملاحظاتها خلال ثلاث سنوات. فمع الأيام، يكبر الأفراد ويتغيّرون، ونكتشف فيهم صفات جديدة، ولماذا تصف المعلّمة بنتا في عمر العاشرة بـ«الرصينة»، الصفة مخيفة…
في أيام المدرسة، كانت بنتا لذيذة، مجتهدة، يحسبها الآخرون أنها غير مسليّة، وحين تشاركهم في رحلة ما، كانت ترقص وتغني. هي تحبّ الرقص كثيرا، تعتبره نوعا من الصلاة، تفكّر بأن الشعوب التي ترقص لا تخوض الحروب، الرقص مناف للحرب.

كانت تلميذة مجتهدة، ولم تكن يوما غير ذلك. أن تكون تلميذا يعني أنك ما زلت صغيرا وبريئا، أن تكون تلميذا مجتهدا يعني أنك ما زلت تقلق من الامتحان..
هي تكره الامتحان. في الجامعة، ومن شدّة الخوف، كانت لا تقدر على الذهاب إلى إجراء الامتحان. لا تفهم من أوجد فكرة الامتحان، وأدخلها في المناهج الدراسيّة وأرعب بها الأطفال والأولاد، تفكّر إن كان الامتحان في المدرسة تدريبا على امتحانات الحياة أو ترهيبا يمكث في النفوس الصغيرة، فتكبر والخوف يطاردها..
اكتشفت اليوم أنها طفلة صغيرة، كبرت وسافرت وكانت قويّة، تغلّبت على الخوف من الامتحان فنجحت وتغلّبت على الخوف من الابتعاد عن العائلة فسافرت وصمدت، لكنها ما زالت تنزعج من فكرة الامتحان.
تنزعج من أشياء كثيرة، من الكلام والثرثرة، هي لا تتكّلم كثيرا، صامتة في معظم الأحيان، وحين تتكلّم تفكّر كثيرا من بعدها، ربما لهذا السبب تختار عدم الكلام. هي تنزعج أيضا من الضجة ومن الأصوات الحادة، بالنسبة إليها صوت الموّلدات مشكلة كبيرة، يشغل بالها، وتضع له حلولا، وتنزعج أيضا من صوت الراديو في سيارة التاكسي، وتدعو ربّها في كلّ صباح أن لا يفتح سائق التاكسي الراديو، وحين يفتحه، تدعو أن لا يلتقط أثير إذاعة المقابلات السياسيّة، هي تكره المقابلات السياسيّة، لا تفهم عقول السياسيين الشرقيين والغربيين، لا تعرف لماذا لا تفهم، ربما لأنها لا تهتمّ، تعتبر نفسها غير قادرة على تغيير المحتوى أو الإستراتيجيات العالميّة وتتساءل لماذا ينهمك بعض الأفراد بالسلطة، ولماذا يفكّرون بالسيطرة على تلك الأراضي الواسعة والممتلكات، ولماذا يخططون وينهمكون ويضيّعون سنوات عمرهم في المحافظة على السلطة، هي ليس لها طموحات كبيرة، لم تفكّر يوما بالطموحات الكبيرة، هي فتاة صغيرة، أقصى ما تطمح إليه أن يهاتفها أحدهم في منتصف الليل أو يبعث لها برسالة صغيرة. هي ترغب أيضا في أن يضمّها أحدهم إليه.

في كلّ مرّة تتعرّف إلى أحدهم، كانت تطلب منه أن يضمّها، طلب غريب لا تفهمه ويجعل الآخر مستغربا. في فرنسا، يقف بعض الأشخاص في الشارع ويوزّعون غمرات مجانيّة، كانت ترغب في أن تقترب لكنها لم تتجرأ يوما، لماذا لا يوزّع الأفراد غمرات جماعيّة..
الغمرة سحريّة، حين يغمرك أحدهم بحبّ، تثبت قدماك على الأرض، لم تشعر يوما بأن قدميها ثابتتان على الأرض، شيء ما يفصلها عن الأرض لكنها لا تهوي ولا تتساقط، السقوط جميل، والثبات جميل، والطيران أجمل غير أنها لا تتطاير، ولا تتساقط، وقدماها غير ثابتتين على الأرض. 

السابق
مذكّرات سوزان بـ10 ملايين استرليني
التالي
لماذا چنيفر لوپيز تبكي على الشرفة؟