مسؤولية الاتحاد الوطني الحر

– 1 –
سئلت طيلة الأشهر الماضية عشرات المرات, من كثير من الأصدقاء, عن موقفي من هذا الطوفان الذي عرفته الحياة الحزبية في تونس بعد الثورة, فقد بلغ عدد الأحزاب السياسية المرخص لها نحو المئة والخمسين, و ربما أدرك العدد المئتين قريبا, إذا ما احتسبنا تلك الأحزاب التي لم تمنح تأشيرة العمل القانوني أو تلك التي لا تزال تنتظرها, ولا شك أن هذا العدد الهائل من الأحزاب مثير للاحتجاج و الاعتراض, بل الاشمئزاز, في بلد لم يتجاوز عدد سكانه 11 مليون نسمة.
وكنت أجيب السائل باستمرار أن وزارة الداخلية كانت هي من تمنح التأشيرة في ظل الاستبداد سابقا, وكانت دائما ما تمنحها وفقا لتخطيط ورغبة السلطان, لكن التأشيرة اليوم في ظل الديمقراطية, يجب أن تمنح من الشعب عبر صناديق الاقتراع الحرة والشفافة, والواضح أن الشعب التونسي قد مارس فعلا هذه الصلاحية, ومنح من أراد التأشيرة في انتخابات 23 اكتوبر الماضي, وحجبها عمن أراد, وكان على جميع القوى السياسية أن تفهم الرسالة التي وجهتها جماهير الناخبين, وأن تعمل وفق إرادتها و تستجيب لقرارها.

– 2 –
إن الحراك الذي تشهده الحياة الحزبية التونسية هذه الأيام هو حراك طبيعي واستجابة سليمة لإرادة الناخبين, فهناك أحزاب بادرت إلى حل نفسها, و هناك أحزاب ائتلفت فيما بينها في حزب أو تحالف أو جبهة, وهناك أحزاب قررت ممارسة النقد الذاتي وإعادة بناء نفسها وخصوصا فتح أبوابها لاستيعاب غيرها من أحزاب و تيارات ومستقلين لتكوين أحزاب أكبر, ومن بين هذه الأحزاب الاتحاد الوطني الحر. واكيد أن تونس في طريقها إلى معايشة حالة حزبية صحية لا تزيد فيها القوى السياسية الرئيسية عن خمس أو ست, وهو العدد الذي يمكن أن تحتمله البلاد فعلا, فإذا ما زاد الأمر عن ذلك, فإن استقرار مؤسسات الحكم وأداء الحكومة لن يكون مضمونا, وستكون تونس معرضة لهزات لا حد لها, مما سيضاعف آلام البلاد الاقتصادية والاجتماعية.

– 3-
وكما يمكن أن يشهد أي باحث عارف بشأنها, فإن تونس الجديدة تكاد تفتقد أحزابا سياسية حقيقية, بالمعنى العصري والديمقراطي واللوجيستي للكلمة, فالغالبية العظمى للأحزاب لا يتجاوز إشعاعها العاصمة, وهي تفتقد للموارد القيادية والبشرية والمادية اللازمة, وتتخبط في أزمات مالية و تنظيمية لا حصر لها, بل إن الأحزاب الأكثر نجاحا بينها, غرقت خلال الأسابيع الأخيرة في موجات هزات وأزمات داخلية متعاقبة,مما قد يؤثر بوضوح على استقرار البلاد السياسي, خصوصا إذا ما تعلق الأمر بأحزاب مشاركة في الحكومة.
وإن من أهم ما يمكن استنتاجه من أزمات الحزبية التونسية, عدم مثالية التجربة الديمقراطية التعددية, وحاجة الديمقراطيين إلى إمكانيات مادية للوصول إلى أكبر قدر من المواطنين, والتمكن من بناء تنظيمات قوية وقدرات تعبوية ضرورية, فمن دون هذه الامكانات ستكون الأحزاب مضطرة للاكتفاء بأدوار الدكاكين السياسية, حيث لا يعرف المواطنون من قادة الحزب غالبا غير اسم الرئيس, ويكاد نشطاء الحزب يضمنون بالكاد وجود مقر صغير رئيسي في احدى العمارات الشعبية في مكان ما من العاصمة. ومن هذا المنطلق فإنه يكاد لا يوجد حزب كبير معروف من الأحزاب السياسية التونسية لم تطله شبهة المال السياسي, بل إن الحزب الحاكم نفسه متهم بتلقي تمويلات من جهات أجنبية غير مجهولة, بما قد يمس باستقلالية القرار السيادي و الكرامة الوطنية.
 – 4 –
والحق أنني منذ اليوم الأول لعودتي من المنفى, بفضل ثورة 17 ديسمبر 2010 المباركة, لم أرغب في تأسيس دكان سياسي, أقف فيه وحيدا في العراء, مؤسسا ورئيسا وناطقا رسميا وممولا, تماما كما فعل كثير من أصدقائي ممن تشاركنا الألم والأمل في رحلة النضال الديمقراطي والحقوقي. وقد آثرت تأكيدا لهذا المنحى, مشاركة أحد الأصدقاء محاولة بناء مشروع سياسي مختلف, يقوم على قيادة جماعية وممارسة ديمقراطية, غير أنني اكتشفت مع مرور الأيام وهمي الكبير, ووقفت على حقيقة أن رغبة ذلك الصديق لم تكن متطابقة مع رغبتي, وأن "جن الرئيس" يكاد يكون سكن عددا كبيرا من رفاقي واخواني, ممن وجدت أنهم اقتنعوا جازمين بأنهم زعماء كبار لم يجد الزمان بمثلهم, وأن الديمقراطية لديهم ليست سوى خطاب يقدم للجماهير من دون أن يكون ملزما للملهمين, وقررت في نهاية الأمر الانسحاب من التجربة بهدوء, حفاظا على شعرة الصداقة وبعض التقدير لجوانب إنسانية يطول في هذا المقام شرحها.
ولأنني عنيد, والعناد وراثة في العائلة, فقد صممت على المضي بصمت طيلة الأشهر الماضية في طريق البحث عن تجربة حزبية حقيقية, لا مجرد دكان سياسي, وقد صمدت أمام ضغوط طلبات ورغبات أصدقاء كثر, ما انفكوا يشجعونني على التأسيس لمشروع سياسي جديد, يقوم على تلك الأفكار التي طالما آمنت بها وعملت على التبشير بجدواها, ومن أهمها أنني كافر بالأحزاب العقائدية, ومقتنع بوجود أمة تونسية وشخصية وطنية متميزة, ومدافع شرس عن قيم النسبية والحرية والعدالة الاجتماعية, ولم أجار الأصدقاء على أمل تحقق شروط أفضل لإطلاق المشروع الجديد, وعلى ثقة بأن البشر لا يصنعون أقدارهم إنما يسيرون وراءها.

– 5 –
ولا بد في هذه الأثناء من الاشارة إلى أنني خضت مباشرة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي, تجربة أدخلت اللبس لدى بعض العقول المتشككة أصلا, ولا مناص الآن من شرحها وتوضيحها, وهي تجربة الدفاع عن العريضة الشعبية, التي اسقطت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات – بتواطؤ وربما تشجيع كل القوى السياسية – سبعة من قوائمها الناجحة, من بينها قائمة العريضة في سيدي بوزيد ولاية الشرارة الأولى للثورة, حيث ترعرعت ونلت شهادتي الابتدائية والثانوية. ولأنني اعتدت المجازفة والسير عكس التيار, فقد قررت التصدي لهذه السقطة الأخلاقية والسياسية, والتنديد بسلوك الهيئة والدعوة إلى ارجاع الحق لأصحابه, و قد زكى القضاء الاداري وجهة نظري مشكورا وانتصر لرأيي المتواضع.
ولم يكن الدفاع عن العريضة من منطلق انتماء حزبي, فقد كررت أكثر من مرة في برامج التلفزيون التي شاركت فيها, أنني مستقل اعبر عن وجهة نظر غير حزبية. والحق أيضا أن العريضة لم تكن حزبا يمكن أن ينتمى إليه, إنما كانت قضية عادلة وتيارا في سبيله إلى التشكل والتنظم, ولو دارت عجلة التاريخ للوراء وتعرض أي تيار سياسي في هذه المرحلة التأسيسية تحديدا للمظلمة نفسها التي تعرضت لها قوائم العريضة, لما ترددت لحظة في الدفاع ببسالة عنها.
وعموما فإن أهم ما خرجت به من تجربة دفاعي عن العريضة, تقدير شرائح واسعة من التونسيين, وخصوصا من أبناء الطبقات المحرومة والجهات المهمشة في تونس العميقة الحبيبة, وما كان لتجربة كهذه إلا أن تراكم الدروس والعبر, وتكون مدخلا لتجارب أخرى, أرجو أن تكون وطنيا وشخصيا أكثر فائدة و صلابة.

– 6 –
وللأمانة أود أن أؤكد أنني طيلة حياتي, التي تجاوزت اليوم العقود الأربعة, لم أسع يوما إلى لقاء صاحب مال أو سلطة, وأن كل الذين التقيتهم من هاتين الفئتين إنما كانوا أقدارا رتبها الله, وكذا كان لقائي بالأخ سليم الرياحي مؤسس ورئيس الاتحاد الوطني الحر, قدرا طيبا بحول الله, إذ وجدته قائدا وطنيا سياسيا شابا, يملك حلما جميلا لتونس, ويؤمن بأفكار قريبة من تلك التي آمنت بها, ولا تعوزه القدرة على ممارسة النقد الذاتي, كما لا ينقصه التصميم على المضي في طريق العطاء للوطن, رغم من كل ما تعرض له من هجومات وحملات تشويهية سوء فهم وتقدير.
وقد وجدنا أنفسنا بعد جلسات من التعارف والنقاش البناء متفقين على توحيد مشروعنا والعمل سويا على تطوير مشروع سياسي مشترك لصالح الوطن. ولست أنكر في هذا السياق حصول طمأنينة قلبية ما كان من دون حصولها للمسار أن يتقدم, فأنا رجل كما سبق وأن أشرت, لا أتحرك من منطلق عقلاني فقط, كما قد يبالغ البعض ظنا من عند أنفسهم, إنما تدفعني أيضا رؤى وجدانية وخواطر عرفانية.

– 7-
وقد قام جوهر الاتفاق على إعادة بناء حزب الاتحاد الوطني الحر بالكامل, على أسس متينة صلبة, تجعله مرفقا وطنيا عاما, وتحرره من تلك الملامح السلبية التي علقت به جراء المرحلة الانتخابية المتوترة, وتفتح أمامه آفاقا جديدة للمساهمة في تنمية الحياة السياسية وإنضاج المشروع الديمقراطي, مثلما اتفق أيضا على أن يكون الاتحاد حزبا وطنيا متشبثا بتميز أسس الشخصية الوطنية التونسية, وحزبا وسطيا محافظا مؤمنا بأهمية احترام قيم الهوية العربية الإسلامية, وحزبا اجتماعيا يناضل من أجل أن يقدم الوطن لمواطنيه حزمة المواطنة بما تعنيه من منحة للبطالة وسكن اجتماعي وصحة مجانية وتعليم عمومي متقدم, وتتضامن فيه الطبقات في إطار وطني و يتعاون فيه القطاعان العام والخاص من أجل الدفع بالمشروع التنموي.
وقد انطلقنا في العمل, منذ جرى تكليفنا رسميا بمهمات الأمانة العامة, على إعادة بناء الاتحاد, في ثلاث مستويات رئيسة, أولها إطلاق مشروع الألف لقاء مع جماهير شعبنا في جميع ولايات الجمهورية, في سبيلنا لإقامة هياكل حزبية متماسكة من أسفل القاعدة إلى أعلى القمة, وثانيها التأسيس لمؤسسات دعم حزبي فاعلة, سواء في مجال الإعلام أو التكوين و الدراسات, أو العلاقات العامة, وثالثها المساهمة في تشكيل كتلة نيابية تقوم بواجباتها باقتدار داخل المجلس التأسيسي لصالح تحقيق أهداف الشعب والثورة.

– 8 –
والخاتمة, أنني أسأل الله أن يساعدنا أشخاص وأحزاب, على الشفاء من أمراض التعصب الأعمى, وأن يعيننا على الارتقاء بأخلاقنا وتطهير أنفسنا من كل الضغائن ولأحقاد والمشاعر الفاسدة, فالديمقراطية لن تتحقق على حد قول مونتسكيو" بالقوانين فحسب, إنما بالفضيلة أيضا, ومن الفضيلة أن لا نخضع لسلطان الأحكام المسبقة, وأن نتحرى الحقيقة ما وسعنا ذلك, وأن لا نمارس عقدنا النفسية بحجة غيرتنا المفرطة على الدين أو الوطنية, ولنتعاون على أن يكون حسن النية هو ضابط تفكيرنا وسلوكنا الأول, وأن نؤمن بأن الوطن يسعنا جميعا, وأنه لن يبنى إلا بتفاهمنا على قواعد نظام سياسي يمكننا من التباري النزيه في تقديم خدماتنا لشعبنا ومصالحه العليا المقدسة.. ومن الله التوفيق أولا وأخيرا. 

السابق
النهار: حرب مدن في ضواحي شرق دمشق و80 قتيلاً وتصاعد الانشقاقات عن الجيش
التالي
الاخبار: أزمة الداتا والعرض الإيراني عـلى طاولة مجلس الوزراء غداً