سعد الحريري هنا.. وهناك

الصورة تفطر القلب. سعد الحريري على سرير المرض، بالثياب البيضاء الفضفاضة، قدمه في الجفص الأزرق، وبالمصادفة. وجهه أصفر، شعره ليس مصففاً بالجل إلى الوراء كما اعتدناه. الوجه متجهم والعينان ترمقان عدسة الكاميرا. متعبتان، ناعستان، متألمتان. يده بين يديّ زوجته لارا، تحتضنها، وتنظر مبتسمة إلى الكاميرا. الصورة مأخوذة بشكل مقصود، وليست مسروقة من «باباراتزي» المستشفى الأميركي ـ الباريسي، والهدف أن تنتشر بسرعة وأن تثير عاطفة أو عاصفة بين متضامن أو شامت، متأسف أو هازئ. لكن الصورة، أراد لها ملتقطها ومسرّبها أن تحمل رسائل عدة، أولها تأكيد واقعة الحادثة، وثانيها استعطاف الجمهور مع المناضل ولو من على سرير مرضه. وثالثها، أن الحريري لن يكون بمقدوره القدوم في ذكرى اغتيال والده، حتى لو أراد معاندة الأطباء. ورابعاً وأخيراً، تحاول الصورة أن تحول قضية عودة الحريري إلى دراما وطنية، يعْرُج خلالها «المستقبل»، «من ركبته» هذه المرة.

حازت زلّة القدم على حصة كبيرة من التعليقات على مواقع التواصل الإجتماعي. الرئيس الذي كان يمضي وقته في جبال الألب، اضطر إلى قطع إجازته والعودة إلى باريس للعلاج. وهو، بعدما اطمأن إليه، الخصوم والحلفاء و«الدول»، يتماثل للشفاء بعد إجراء عملية جراحية، وسيعود لنشاطه الطبيعي، بالتزلج وممارسة الرياضات على أنواعها. سيكون أيضا بإمكان الحريري الجلوس طويلاً أمام شاشة الكومبيوتر للدردشة مع جمهوره على موقع «تويتر»، وهناك، «ستتسنى له الفرصة للعلاج من زلات لسانه» حسب أحد المعلقين على «فايسبوك»، مستذكرا الزلة التي أوقعت الحريري في ردّ التحية على المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي. هنا يحضر قول لبينجامين فرانكلين يؤكد فيه امكان الشفاء من زلّة القدم، لكنه يستبعد الشفاء من زلات اللسان.
الحريري عاد واعتذر وقال إنه لم ينتبه ولو عرف لما ردّ التحية الصباحية. وعلينا طبعاً أن نصدق الحريري، وأن نضع القضية وراءنا، فالأخطاء تقع عادة، و«من كثر كلامه كثر خطأه» كما يقول علي بن أبي طالب. مع أن فلاديمير لينين، وقد استشهد زياد الرحباني بهذه الفكرة، يقول إن الوقوع بالخطأ مصير من يعمل، فلا يخطئ من لا يعمل، والحريري حالياً، عاطل عن العمل. لا يعاني، لا سمح الله، من بطالة أو قلّة، فأمثاله لا يعانون من مشاكل مماثلة، مع المليارات التي يمتلكونها، مع أن الأزمة المالية لم توفّره وتياره. لكنها البطالة السياسية يعاني منها الحريري وفريقه السياسي، ولولا الموضوع السوري، لما سمعنا تصريحات من نواب المستقبل وسياسييه. فحتى وظيفة المعارضة، وما تقدمه لها الحكومة من مواد دسمة، يتعفف الحريريون عن تأديتها. يتركون الأمر لأطياف الحكومة التي تتصارع في ما بينها، فلا يضطرون معها إلى الدخول في الصراعات.

سعد الحريري يبدو سعيداً بما يحدث في البلد. الحكومة التي أتت بعد اقصائه تواجه شارعها، فيما شارع الحريري يتزود بالتكنولوجيا لمواكبة زعيمه على «تويتر»، حتى أن طرفة ذهبت إلى القول بأن «المستقبل» يوزّع الحواسيب المحمولة على جمهوره، لأن تظاهرة الرابع عشر من آذار ستكون «أونلاين» مباشرة عبر «تويتر».
ها هو الحريري يكتشف ساحته الخاصة، التي يستطيع منها إطلاق مواقفه، من دون زجاج مضاد للرصاص، ومن دون تشريفات وتنظيم وحشد. لكن الأجواء هذه، توحي بأن الحريري لن يشارك بذكرى اغتيال والده. بل سيتكرر سيناريو مهرجان طرابلس، فيتولى فؤاد السنيورة دور البطولة، لكن هذه المرة من قاعة «البيال».

استطاع الحريري أن يختصر كل القضايا بشخصه، بالنسبة إلى جمهوره، يبدو شخصه وحضوره هما المسألتان اللتان تتربعان على عرش الأولويات. النقاش الآن لا يطال القضايا التي كان يحملها الحريري، كالمحكمة الدولية وسلاح «حزب الله» وإسقاط النظام السوري، بقدر ما يطال حضوره أو عدمه إلى الساحة اللبنانية. بعض الناس في انتظاره على غرار انتظار غودو في مسرحية صموئيل بيكيت. أو كانتظار القطار في مسرحية «المحطة»، يقطع الناس التذاكر من دون أن يكون هناك سكّة أو محطة أو نقطة انطلاق.
موعد الناس معه في الرابع عشر من آذار. لكن هل يتماثل للشفاء من الآن حتى ذلك الموعد؟ هل يلتئم كسر العظم في مدة لا تتجاوز شهراً ونصف الشهر؟ هذه الأسئلة يمكن نقلها لطبيب عظام، لكن المنطق يقول إن الحريري لن يتخلص من الجفص الأزرق قبل شهور. سيعود، يؤكد المقربون منه، ليضرب قدمه في الأرض، ويقول: أنا هنا. أو، قد لا يعود، قد يظهر في الرابع عشر من آذار، عبر شاشة عملاقة، ويقول: أنا هنا، وتقديرها… هناك.  

السابق
عزل مروان البرغوثي في زنزانة انفرادية بسبب تصريحاته للصحفيين
التالي
فياض في دافوس: عملية السلام لم تكن في وضع مؤسف الى هذا الحد منذ اوسلو