هذه هي مشاريع الطوائف

بات محسوماً أن الطوائف عندنا، في كونها قبائل تامة وغير قابلة لأي نفاذ، تملك مشاريعها الخاصة الشاملة والمتكاملة.

السنّة مثلاً خيارهم محسوم. إنه الطائف، لكن بنسخته الحريرية. والفارق كبير بينه وبين طائف رينيه معوض ـــــ حسين الحسيني ـــــ سليم الحص، رحم الله «طائفهم الأصيل». أما «الطائف البديل»، فهو الأرجحية السنية في الكيان (ولو باللجوء إلى تهريبة تجنيس) وأرجحية رئاسة مجلس الوزراء في النظام (ولو كانت عاقبتها إعادة تفخيخ البلد)، وأرجحية الرعاية السعودية في المرجعية الخارجية للدولة وسياساتها (ولو في زمن الاتجاهات الظلامية للمنطقة الداخلة في غياهب «الصحوة»).
شيء ما مطابق لوهم المارونية السياسية طوال عقود ثلاثة. والعوارض كثيرة، من عجز وطن بكامله عن تغيير موظف مرتكب لمجرد انتمائه المذهبي، تطبيقاً لقاعدة «انصر أخاك…»، مروراً بمصادرة سهيل بوجي للسلطة التنفيذية برمتها، انطلاقاً من الحساب نفسه، وصولاً إلى تحكم السرايا ببضع دزينات من المؤسسات العامة، وانتهاءً بأن يكون حتى النظام الداخلي لمجلس الوزراء أمراً ممنوعاً ومحظوراً ومرفوضاً، ويمكن أن يمثّل «خرقاً فاضحاً» و«انتهاكاً صارخاً» لطائف السنّة ومقتضياته الطائفية ومكتسبات الطائفة التاريخية. حتى ولو كان ثمن ذلك حالة كشربل نحاس في ثورته النقية…

الشيعة خيارهم ليس أقل حسماً. في كل تلوينات الطائفة وتمايزاتها، نجد هذا الخيط الواضح من انتزاع الشرعية المفقودة تاريخياً، وإثبات الوجود المغيب منذ قيام الكيان، وتأكيد الحضور والمشاركة والتأثير والنفوذ. كل ظواهر الحضور المجتمعي للطائفة الشيعية كأنها ردّ على عقود الإقصاء. في الجغرافيا يتكتلون مساحة صلبة متراصة، في السياسة يؤدون أدواراً أكبر من البلد، في الخطاب واللباس والاقتصاد وكل مناحي الحياة… كأنهم يصرخون: بات من المستحيل تغييبنا. خرجنا من القمقم، ولن نعود إليه. أعيدوا كل حساباتكم على هذا الأساس. والأساس المذكور هو في الواقع حساب تراكمي، يتزايد يوماً بعد يوم، زقاقاً ضاحوياً بعد زقاق، وصاروخاً بعد صاروخ. غير أن اتجاهه العام على مستوى النظام واضح: الوصول إلى لحظة يقول فيها الشيعة لـ«الآخرين»: هذا الطائف بموازينه ومعادلاته السابقة لم يعد قابلاً للحياة ولا قادراً على تحقيق العدالة والمساواة. لا بد من إعادة النظر فيه، بأي شكل من الأشكال، المهم أن يأخذ في الاعتبار حقيقة الأحجام والأوزان.الدروز، في ضعفهم والضمور، خيارهم محسوم أيضاً. عبّر عنه ببلاغة ذات مرة وليد جنبلاط حين قال إننا صرنا آخر الهنود الحمر. يومها أضاف إلى تصنيفه الذاتي الموارنة أيضاً. رغم الفارق طبعاً في تشخيصه لنوع الأجناس، بين جنسه الصالح وجنسهم «العاطل». هكذا أراد جنبلاط لطائفته أن تحمل مشروع البقاء أحياء، بأي ثمن كان، بين كل وصاية يساهم في جلبها، وكل ثورة يكون مسؤولاً عن نحرها. المشروع الدرزي واقعي جداً: احتراف الحياة في أدغال القبائل الكبرى. مع الاقتناع بدور الوسيط وحصة «البروكر». وهما دور وحصة ثابتان، نتيجة تخلف تلك القبائل في إدارة صراعاتها ومعالجة أزماتها الدائمة.

يبقى المسيحيون، أو ديناصورات الأوهام الساقطة، وحملة القضايا «الأركيولوجية» الكبرى. هؤلاء لم يدركوا بعد أن شعاراتهم التي عاش زعماؤهم عليها طوال نصف قرن، باتت معروضة في المتاحف. شعار مواجهة سوريا ومطامع سوريا التاريخية، بات يباع في علب تذكارية لسياح درعا وجسر الشغور. أمن المجتمع المسيحي، أصبح جزءاً من ديكور البلاطات الخليجية. حتى «المناصفة» أُعجب أمراء النفط بها أخيراً وقرروا ضمها إلى جناح حريمهم. كان قد بقي للمسيحيين شعار الحداثة والعصرنة، وقد نجحوا في تطويبه عبر تنظيماتهم النيو ـــــ عائلية، وقد يقدسونه في صورة «جزمة» قريباً…
وسط كل هذا الجنون، هل من يفكر بخطوة جدية وفورية لمشروع دولة مدنية… حتى بلا دين ربما، ولو لبضعة عقود بداية… نعم، كفَّرونا.  

السابق
الاخبار: مجلس الوزراء أرجأ بحث أزمة الكهرباء إلى جلسة الموازنة!
التالي
الحياة: ديوان المحاسبة يفتح تحقيقاً في فضيحة المازوت: شركات اشترته مدعوماً وباعته بالسعر العادي