اختلاف المعارضة لن يفسد للثورة قضيتها

بعد أعوام طويلة من سيطرة الحكم الفردي وثقافة تقديس الحاكم وسياسة الحزب الواحد، تم خلالها كم الأفواه وكتم الأصوات وتعتيم الرؤية وغسل العقول، انفجرت الثورة السورية الشعبية لتقذف بحممها الثائرة على الواقع المزري جميع أطراف اللعبة السياسية القذرة التي استنفدت مقدرات الوطن الاقتصادية والسياسية والبشرية، وقدرات المواطنين الفكرية والابداعية والثقافية، وثار الشعب السوري ليفاجئ نفسه والعالم أجمع بقدرته على تحطيم جدار الصوت المكتوم وتغير ملامح الصورة المبهمة لمستقبل يترنح بين سلاسل العبودية والتوق للعيش بحرية.

وأصبحت الفرصة مواتية لكل معارضي النظام السوري أن يطلقوا العنان لأفكارهم ورؤاهم وتطلعاتهم بعد أن فتح لهم الشباب السوري المقهور شباك الحرية لينطلقوا منه مغردين بألحانهم المحبوسة في صدورهم بأمر من الحاكم المستبد، وعلل الشعب السوري نفسه بالأمل في أن يكون لديه معارضة جاهرة ناهرة تقف على قضيته موقف المدافع عن المظلوم والطبيب من المريض، فتضع يدها على الجرح لتبرأه وتشخص الداء السقيم لتحدد الدواء السليم.
لكن كما الكسيح يجري بعد شفائه بدل أن يمشي، والكفيف يضع نظارة شمس عندما يبصر النور، والأخرس يغني نشاذاً إذا قدر له أن ينطق، كذا المعارضة السورية التي ما أن انفكت عقدة من لسانها بانفكاك كماشة النظام حول عنقها حتى أمطرتنا بوابل من التصريحات والتحليلات والتعليقات والمواقف التي لم ترتق إلى جلالة الحدث الوطني وهول المصاب الإنساني ومستوى الحراك الشعبي ووضوح الهدف الثوري، الذي اختزل بإسقاط النظام العائلي القائم والتحول إلى الحكم الديموقراطي كنهج ارتضاه الشعب لنفسه بديلاً عن الحكم الاستبدادي الأسدي.

ففي الوقت الذي أصبح الشارع السوري بأمس الحاجة لمعارضة موحدة قوية تمثله أمام المجتمع الدولي وتعمل على إيصال صوت الشعب السوري إلى خارج حدود الوطن، نجد أن انقساماً كبيراً حدث في كيان هذه المعارضة حديثة البنيان قد يسفر في وقت ما عن حدوث شرخ عميق بين أطياف المعارضة يصعب ترميمه ولا يستفيد منه سوى النظام الأسدي ومؤيدوه، وبعد أن كان يصعب على المعارضة الالتقاء في ندوة سياسية أو اجتماع فكري أو صالون ثقافي، أمكن لمعظم أطياف المعارضة بعد جولات كثيرة ومعقدة من المفاوضات وتقارب وجهات النظر، أن تنضوي تحت لواء المجلس الوطني السوري الذي حصل على تأييد الشارع الثائر له واعترف به كممثل وحيد وشرعي للثورة على أن يعمل على تحقيق أهدافها المتمثلة بإسقاط النظام الحالي وحماية المدنيين السوريين من بطش كتائب الأسد وشبيحته.
 إلا أن بعض هؤلاء المعارضين المغردين استحسن الغناء خارج سرب المجلس الوطني السوري لخلافات شخصية وأسباب واهية كان يمكن القفز عليها في سبيل تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لأن المرحلة الراهنة من الوضع السوري تتطلب تكاتف وتوحد جميع أطياف المعارضة وصهر كل الأفكار والنظريات والآراء في بوتقة واحدة لتحقيق الهدف الذي اندلعت من أجله الثورة السورية، خصوصا وأن المجتمعين الدولي والعربي قد طالبا بتوحد هذه المعارضة وتقديم رؤية مشتركة وموحدة تقيس نبض الشارع وتعكس مطالب الثائرين فيه، بل أن بعض الأطراف المناوئة للحراك الشعبي كانت تتكئ في نقدها وتشكيكها بحركة الشارع على الاختلاف الواضح بين أطراف المعارضة من جهة وبين الخلافات التي تحدث داخل كل منظومة من منظومات المعارضة من جهة أخرى.

فبعد تأسيس المجلس الوطني السوري واطمئنان الشارع السوري لرئاسته وأمانته ومكاتبه، ظهرت على الخارطة السياسية ما يسمى بهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي، والمؤتمر السوري للتغيير، والائتلاف العلماني الديموقراطي السوري، وغيرها، وغيرها حتى كاد أن يصبح لكل رمز من رموز المعارضة كيان خاص به يتقوقع داخله متمسكاً باستقلاليته وانفراده بالرأي وولعه بالمجادلة، ومن المؤسف أن بعض هذه الرموز قد غامر بتاريخه النضالي الطويل من أجل بعض الطموح السياسي الذي استفاق مارده مع تغير الجو السياسي القادم مع بزوغ فجر الحرية والديموقراطية، كما أن جنوح رموز أخرى نحو التشكيك في كل الأطراف المشاركة في الحل السوري والاعتراض لمجرد الاعتراض يشكل خطراً كبيراً على الثورة لأن الوقت الذي يمكن أن يضيع في ترهات لا مبرر لها يدفع ثمنه من دماء الشهداء التي تسيل يومياً.

ورغم إيجابية ظاهرة التعددية هذه من الناحية الديموقراطية والممارسة السياسية الصحية التي لا غنى عنها لاكتمال الصورة الديموقراطية في الأحوال العادية، إلا أنها تعد ظاهرة خطيرة في حال الأزمة السورية التي من الواجب فيها أن تتوحد المعارضة في وجه النظام الأسدي وأمام المجتمع الدولي حيث يتردد في التدخل لإنهاء هذه الأزمة بحجة عدم توافق المعارضة على ورقة توافقية تحمل في طياتها ملامح المستقبل السوري بعد حكم بشار الأسد.
لقد كثر المعارضون في المطبخ السوري وكل يدلو بدلوه دون إدراك ما يمكن أن يحدثه رأيه من تأثير في الرأي العام المحلي والعربي والدولي تجاه القضية السورية، لكن بالتأكيد لن يستطيعوا على كثرهم أن يحرقوا الطبخة الثورية السورية التي تحوي جميع النكهات التي ترضي أذواق جميع السوريين الذين تذوقوا طعم الحرية والكرامة بعد عهد طويل من الجوع السياسي والثقافي والإنساني. 

السابق
اختطاف شبلي العيسمي
التالي
ديبلوماسية موجعة