بين سوق الغرب وساحة الشهداء

رغم كل ما حصل ويحصل في الملف السوري، تشير حركة وليد جنبلاط في الكلام والموقف إلى أنه يستعد لأزمة سورية طويلة الأمد. فعلى عكس حلفائه في السياسة من يمين 14 آذار، لم يتورّط في الرهانات على سقوط الحكم في دمشق، كما على عكس شركائه في الحكومة، أقلع منذ مدة طويلة عن الدفاع عن السلطة القائمة هناك. وهو ما جعل كثيرين في السياسة اللبنانية يتساءلون عن سر تموضعه، على اعتبار أن سيد المختارة عارف تاريخي تقليدي باتجاهات الرياح الدولية، أو بكلمات السر، أو كون انتشار طائفته بين لبنان وسوريا وإسرائيل يجعله من الموضوعين سلفاً في أجواء ما سيحصل، لأكثر من سبب وحاجة وضرورة بالنسبة إلى من يلعب ببيادق المنطقة، لاستخدام البيت الجنبلاطي عامل تسهيل وتمهيد. غير أن المراقب بدقة لحركة جنبلاط لا يحتاج إلى كثير سؤال أو استيضاح. فكل ما يقوم به هو البحث في السياسة، وبواسطة التلمس اليدوي البحت، عن النقطة الدقيقة لتقاطع الطرق الذي وصل إليه الوضع السوري، وبالتالي اللبناني. كأنه بكل بساطة لم يصدق تهويلات الغرب حيال سوريا، على طريقة 2005 ماضياً، أو على طريقة سعد الدين الحريري راهناً، ليضع أمامه ملف اغتيال الوالد، أو ليعلن على الشاشة «لقد كذبت 25 عاماً، والآن صار بإمكاني قول الحقيقة»، أو حتى ليصرخ في الساحة خطابه الشهير عن أنواع الحيوانات الضارية أو الغادرة… وطبعاً لم يصدق في المقابل التطمينات إزاء سوريا أيضاً، لا من حلفاء تاريخيين في الخارج مثل أهل موسكو، ولا من شركاء مفروضين أو مفترضين في الداخل مثل حزب الله، ليستعيد خطاب «الوقوف قومياً إلى جانب دمشق»، أو لينبش شهداء سوق الغرب من قبورهم ملمِّعاً «ملحمة 13 آب»، أو ليدلف مجدداً في زقاق دير قوبل و«جيش كمال جنبلاط» و«مأثرة الشحار الغربي»، فيرفع قميص «ربط دمشق ببيروت في وجه مؤامرة 17 أيار»…. هكذا لم يثبت وليد جنبلاط إلا على اقتناع واحد، بأن دمشق مفتوحة على كل الاحتمالات، أقلّه على مدى زمني متوسط، قد يستمر سنوات. وبالتالي فبيروت نتيجة لذلك محكومة بالمعادلة نفسها. غير أن الاصطفاف العميق الحاصل داخلياً وخارجياً جعل من المستحيل بالنسبة إليه الركون إلى نصيحة أو الاتكال على «تعليمة». لا بد من البحث عن وسط العصا، باللحم الحي. لا بد من تلمّس منتصف التقاطع بالمحاولات الصغيرة المتكررة تراجعاً أو تقدماً لا غير. تماماً كأنه يقود سيارته بنفسه، كما يفعل غالباً. ويبحث عن النقطة «الجودزية» لمفترق الطرق، وهو معصوب العينين، للمرة الأولى. يقف في مكان ما متحسّساً أنه وسط الطريق المتّسع على كل المنافذ. يستشعر أن النواة التقاطعية باتت وراءه، وأنه في كلامه الاثنين الماضي قد تخطّاها بضعة أمتار، فيعود ببطء، كمن يحاول ركن مركبته الهشة الفائقة العطوبة هذا الاثنين. يحسّ مجدداً بأنه تراجع مترين أكثر من اللزوم، فيحاول أن يتقدمهما بتؤدة الاثنين المقبل…هكذا حتى يطمئن، من دون بصر، إلى أنه بات في موقع يمكنه من الانتظار. مسألة واحدة يبدو أنه حسمها في هذا السياق: الاستحقاق الانتخابي النيابي سنة 2013. كأنه بات متأكداً أن الأشهرالثمانية عشر الفاصلة ستمر بسرعة، من دون أي تغيير جذري حاسم في المشهد الكبير. سنصل إلى الانتخابات والوضع على حاله من الغموض والرمادية والإرباك والارتباك. فماذا نفعل عندها؟ هل نفجِّر البلد بالدخول في مواجهة مع حزب الله على طريقة محمد كبارة وخالد الضاهر؟ ومن قال لهما إن الشويفات وجوارها مثل الفيحاء قبالة بعل محسن؟ أو إن الإقليم في خاصرة الشوف قادر على أن يوازي وادي خالد في خاصرة تل كلخ؟ كأن جنبلاط يدرك أنه سيبلغ الانتخابات وهو أمام خيار وحيد: إعادة إحياء صيغة ما للتحالف الرباعي الشهير سنة 2005. كأنه يفكر: نحكي مع حزب الله بموضوعية، وببعض التقية، ومن دون مبالغة في التشاطر. فلندع سوريا جانباً، أقله بالنسبة إلى تقاطعنا الانتخابي. نحن نترك لكم كل الحق بدعمها، وتتركون لنا حق المراوحة بين النأي أو المعارضة. المهم أننا نتفق معكم على حمايتكم إذا رجحت كفتنا، وتتفقون معنا على حياتنا إذا ربحتم. على قاعدة مشتركين أساسيين بيننا وبينكم: فلسطين والدفاع عن لبنان… عنوانان مطاطان صحيح، لكن ما هي البدائل عندنا وعندكم؟ نقطع انتخابات 2013 معاً، ومن ثم ننتظر ونرى.

هل تبدو النظرية الجنبلاطية ممكنة التكرار؟ كل المؤشرات تبدو معاكسة. فسنة 2005 لم يكن ثمة اتهامان متبادلان بالقتل بين الضاحية وقريطم. وكان ثمة عرابان جاهزان للحلف الرباعي، وقادران على «المونة»: فرنسا من جهة وإيران من جهة ثانية، وكان ثمة قرار دولي بإمرار «الانتخابات الآن»، وفق معادلة فيلتمان ـــ إيمييه الشهيرة… كل ذلك معدوم اليوم، ومأزوم، ومحتوم تكراره بالفشل وتعميق المأزق. 

السابق
ابن البلد ؟!
التالي
مركز ثقافي اسباني لبيع الكتب في صيدلية في مرجعيون