مكمن سياسي لسوريا في بيروت

ليست المرة الاولى التي يجول فيها السفير السوري علي عبد الكريم علي على المسؤولين في لبنان للتحذير من مخاطر التدخل انطلاقاً من الساحة اللبنانية في مندرجات الازمة السورية، فهذا الامر تكرر خصوصا في الاشهر الستة الاخيرة، لكن مشهد التوتر الذي بدا فيه السفير وهو يصرح في السرايا الحكومية بعد لقائه الرئيس نجيب ميقاتي، واستطرادا الكلام المنطوي على مرارة والذي اطلقه وهو يتحدث عن جعل الساحة اللبنانية منصة للهجوم على نظام بلاده، كان شيئا جديدا خرج عن المألوف، وهو يعني بشكل او بآخر ان "السيل بلغ الزبى"، وان وراء الاكمة معطيات وتطورات لامست الخطوط الحمر بالنسبة الى دمشق.

في غضون اسبوع واحد تلقت العاصمة السورية ضربتين موجعتين معا مصدرهما الخاصرة اللبنانية، احداهما سياسية – اعلامية، والثانية مادية – عسكرية، ولا شك في ان اصداءهما وتداعياتهما ما انفكت تتردد. فخلال الايام الثلاثة الاخيرة من الاسبوع المنصرم نجح الساعون في محاولة تحويل العاصمة "الحليفة" بشكل او بآخر للنظام في دمشق، منبراً تُكال للنظام السوري منه الاتهامات والضربات على نحو غير مسبوق.

وقد تجلى ذلك في زيارة الامين العام للامم المتحدة بان كي – مون وزيارة وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو. فالاول اختار هذه العاصمة "الوفية" لدمشق، ووفق المقربين منها، ليوجه رسالة قاسية منها بالذات، وهو وان كان اطلق في السابق مثل هذا الكلام بحق النظام السوري، الا ان اطلاقه من منبر العاصمة اللبنانية شيء له معنى للنظام السوري، ولا سيما اذا ما تيقن هذا النظام من معلومات فحواها ان المؤتمر الذي نظمته احدى منظمات الامم المتحدة عن "الربيع العربي"، كان مقررا ان يعقد اصلاً في اسطنبول، لكن تركيا الساعية الى النزول عن شجرة الازمة السورية، والتي حاولت في الآونة الاخيرة ان تنأى بنفسها وبأهم مدنها عن هذه الازمة، تدخلت بالتعاون مع آخرين في بيروت وفي خارجها، بغية نقل المؤتمر الى بيروت، اي على مسافة اقل من مئتي كيلومتر من دمشق، ليكون له الوقع الاكبر والدوي الاعمق ويحقق مراميه في إلحاق اكبر اذى معنوي بالنظام في سوريا.
 وثمة في الوسط نفسه من يرى ان كلام بان كي – مون بالنسبة الى سوريا وبالنسبة والى سلاح المقاومة، قد احرج "الخصوصية اللبنانية" التي تسعى كما هو معلوم وبجهد جهيد لضبط تناقضاتها الحادة حيال الحدث السوري، وبالتالي الرفع من منسوب تداعيات الحدث السوري على الساحة اللبنانية، وهي التي تكابد منذ اندلاع الازمة في سوريا وبالتحديد منذ ان قرر بعض الاطراف في لبنان ان يكونوا اكثر انحيازا ضد النظام في دمشق، ويخوضون حرب المعارضة السورية من الساحة اللبنانية بمشقة كبرى لتحصين نفسها.
اما الثاني، اي داود اوغلو، فلم يكن مجيئه الى بيروت، وفق نظر المقربين من دمشق، الا لتحقيق حلقات الحرب التركية على سوريا من المكان الاعز لدمشق، وافهام هذه العاصمة بأن لا مكان آخر بالنسبة اليه حتى وان كان ابرز حلفائها لاعبا اساسيا فيه، وحتى لو كان فيها حكومة محسوبة بشكل او بآخر على دمشق.

اما المقصد الثاني، فهو ان داود اوغلو جاء الى بيروت ليثأر ضمنا من ضربة سياسية كانت وجهت اليه من على شواطئها قبل عام بالتمام والكمال، وذلك عندما مكث ونظيره القطري الشيخ حمد بن جاسم في لبنان 24 ساعة اضافية في فندق فينيسيا، منتظرا جواب قيادة "حزب الله" على عرض حملوه قوامه ضمان ابقاء الرئيس سعد الحريري في سدة الحكم في مقابل ان يبادر الى خطوات من شأنها ان تفك ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية التي كان الحزب يومذاك متهيبا قراراتها الاتهامية، فإذا بالرسول المنتظر يحمل اليه جوابا سلبيا، فيغادر بيروت خالي الوفاض يجر اذيال الخيبة ومعه شعور بأن سوريا وحلفاءها تغلبوا عليه ومنعوه من تحقيق اول انجاز ذي قيمة في لبنان.
لذا، فإن ثمة من يعتبر أن داود اوغلو مارس في جولاته على السياسيين والروحيين في بيروت نوعا من "الاستذة" وعبر عن شعور بالشفقة على النظام السوري لان هذا النظام فقد الحضن التركي، كونه لم يتلقف فرصة العروض التركية لانقاذه، وفق الكلام الذي ردده اوغلو مع كل الذين جال عليهم.

لذا، فإن المقربين من دمشق في بيروت يتحدثون عن تدبير مسبق معد بدقة واتقان لعقد هذا المؤتمر في العاصمة اللبنانية، نظرا الى رمزية هذه العاصمة لسوريا ولحلفائها ولاغراق هذه العاصمة، التي نجحت حتى الان بشق النفس في تلافي التداعيات السياسية والامنية للازمة السورية، في هذه الازمة لكي يشعر النظام في دمشق بأن اطمئنانه من ناحية الخاصرة اللبنانية مبني على رمال، وبالامكان اختراقها، وليس على ارض صلبة وفق ما يعتقده ويتصرف على اساسه.
وبالطبع فإن المقربين من دمشق في بيروت، يرون ان الكلام الذي اطلقه بان علانية وذاك الذي قاله داود اوغلو ضمناً في جولاته على المسؤولين، وانعقاد المؤتمر في بيروت، هو جزء في سلسلة ممتدة من ابرز ملفاتها زيارة مساعد وزيرة الخارجية الاميركية جيفري فيلتمان والتي انطوت على امر عمليات اميركي لحلفاء واشنطن في لبنان، وكل ذلك يصب في خانة واحدة هي دفع النظام السوري الى الشعور بأن ما من ساحة آمنة له في محيطه، وبالتحديد على الساحة اللبنانية التي يفترض انها ساحة دعم واسناد، ولافهام حلفاء دمشق داخل الحكومة اللبنانية وخارجها، بأن عليهم ان يعيدوا حساباتهم، ويضبطوا بدقة حراكهم لان ثمة من يترصدهم من داخل ساحتهم ومن خارجها.
وعليه ثمة من يتحدث عن ان الاستياء السوري الذي ورد على لسان السفير علي كان له مصدر آخر، هو ان ثمة في داخل الحكومة اللبنانية من سهّل نقل المؤتمر الى بيروت، ولم يفعل ما ينبغي فعله للحيلولة دون تحول بيروت منبراً لتوجيه الرسائل التهديدية الى النظام السوري.

ولا بد من الاشارة الى ان اصداء هذا الاختراق السياسي لخصوم سوريا لبيروت وتداعياته على هذا الشكل دفع حلفاء دمشق الى اجراء نقاش داخلي عنوانه العريض: هل في الامكان بعد كل ما حصل ان تبقى سوريا تسير على الوتيرة نفسها وان تكتفي بحدود ما تقوم به، وتراعي فيه خصوصيات الوضع اللبناني من منطلق الحرص على الاستقرار والنأي بالبلاد عن ازمة المحيط، في حين ثمة من يرفع من وتيرة حراكه ومن منسوب ممارسته المنحازة ضد النظام في سوريا؟
واذا كانت دمشق ما برحت تعاني من ألم المكمن السياسي الذي تعرضت له من منابر بيروت في الاسبوع المنصرم، فإنها تتحدث عن ان الثغرة العسكرية التي نفذت منها المجموعات المسلحة الى بلدة الزبداني وسيطرتها عليها، مصدرها ايضا الجانب اللبناني، وخصوصاً ان هذه البلدة تحاذي الحدود اللبنانية.
وفي كل الاحوال، ثمة من بات يخشى فعلا ان تخرج ردود فعل سوريا وحلفائها في لبنان في الايام القليلة المقبلة عن الحدود المألوفة والمعروفة، فتفقد الساحة اللبنانية حصانة الامان والاستقرار اللذين تمتعت بهما خلال الفترة الماضية. 

السابق
السفير: داتا البصمات: إلغـاء العقـد أم مشـروع اشـتباك حكـومي؟
التالي
لقاء اوغلو_رعد… لماذا خرج الاخير ممتعضاً وماذا أبلغه الزائر التركي ؟