ذكرى 25 يناير واستنكاف البرادعي

احتفل التونسيون بمرور عامٍ على اندلاع الثورة عندهم، والتي أدّت إلى هروب الرئيس، والبدء بإقامة نظامٍ جديدٍ تمّت مرحلته الأولى بانتخابات المجلس التأسيسي، ورئيس جديد للجمهورية، ورئيس جديد للحكومة. وما خلت الاحتفالاتُ من منغِّصات، فالنساء ذوات النزعات النِسْوية غير راضيات، وكذلك الشبان الراديكاليون. والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية بالغة العُسْر والصعوبة. لكنّ التونسيين حقّقوا إجماعا على المسار لم يتخلخلْ، كما لم يخرجْ فريقٌ وازنٌ على الوفاق الوطني العام. بيد أنّ ما تحقّق في الوطن الصغير الذي بدأ فيه زمانُ الثورات العربية، لم يتحقق مثلُهُ في بلد الثورة الكبرى: جمهورية مصر العربية! فبعد قُرابة العام على اندلاع الثورة في 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، هناك خلافٌ على كل شيء: على المسار الذي وضعه المجلس العسكري وجرى بمقتضاه الاستفتاء على تعديل بعض مواد الدستور، وعلى الانتخابات التي جرت رغم الاتفاق على سلامتها الإجرائية، وعلى سلوك المجلس العسكري في الأشهر الستة الأخيرة، وعلى طريقة كتابة الدستور الجديد. وقبل ذلك وبعده على طرائق التعامُل مع الرئيس السابق حسني مبارك ورجالات عهده، وعلى طرائق التعامُل مع ضحايا الثورة وشهدائها، وطرائق التعامُل مع الشبان المدنيين الذين أَطلقوا الثورة. ولذا فإنّ حركات الشباب هذه دعت إلى مليونيةٍ كبرى بميدان التحرير يوم 25 يناير شعارُها استعادةُ الثورة وأهدافها؛ بينما يذهب الإسلاميون الذين فازوا بالأكثرية في الانتخابات إلى أنّ الثورة حقّقت أهدافها، واستعاد الشعب إرادته وحرياته التي عبَّر عنها في الانتخابات التي جرت، وسوف يُدعى بعد مرتين: مرة للتصويت على الدستور الجديد، ومرة لانتخاب رئيس للجمهورية. وفي حين كان الشباب وما يزالون يستعدُّون لمليونية الاستعادة، أعلن الدكتور محمد البرادعي تراجُعه عن الترشُّح لرئاسة الجمهورية. ومع أنه لم يقل بوضوح لماذا يفعلُ ذلك أو لماذا يستنكف؛ فالمفهوم مما قاله أنه يُحمِّل المجلس العسكري المسؤولية عن الأخطاء التي ارتُكبت في رسم المسار، والتي تسبّبت في هذه الاختلالات بدلا من نقل السلطة إلى الشعب بسلاسةٍ ودون استقطاباتٍ وتوتُّرات! ولا ينبغي الاستخفاف بخطوة البرادعي هذه، وإعادتها إلى مجرَّد تضاؤل حظوظه في الفوز بالانتخابات. فقد عاد الرجل إلى مصر قبل سنتين ونيّف، بعد نهاية فترتيه في وكالة الطاقة الدولية، وتحدّى مبارك وعهده ونظامه بالإعلان عن نيته الترشح لرئاسة الجمهورية، فحرَّك بذلك الجماعات المدنية، وشباب العمل المدني والسياسي، وكانت حركته الإيذان بنهاية مبارك وتوريثه وعهده. وقد انحاز إلى الشبان الثائرين منذ البداية، وشكّك في إجراءات المجلس العسكري وخياراته. وعندما اصطدم الشبان بالمجلس العسكري بعد تجاذُباتٍ دامت شهورا، عرض البرادعي أن يتولى رئاسة حكومةٍ جديدةٍ بصلاحيات ويترك بذلك الترشح للرئاسة. ولكنّ المجلس العسكري الذي اعتبر الشبان خصوما له، اعتبر البرادعي خصما أيضا باعتباره واحدا منهم. خلال الأسبوعين الأخيرين، ومع اقتراب موعد 25 يناير ومليونية الشبان فيه، تصاعدت مخاوف كثيرةٌ من عودة الصدام بين الشبان وقوى الأمن. فهناك شبانٌ ما يزالون معتصمين أمام مجلس الوزراء، وآخرون ما يزالون مخيّمين بميدان التحرير. وهؤلاء الذين فقدوا في مواجهة الشرطة والجيش نحو الخمسين قتيلا، ربما صمَّموا بعد التجمع الكبير على البقاء بميدان التحرير لحين تحقيق مطالبهم في التحقيق بما نزل بهم، ومحاكمة من قتلهم، والتعويض على شهداء الثورة، وتشديد القبضة على رجالات العهد السابق، ومغادرة المجلس العسكري لسُدّة السلطة فورا بدلا من الانتظار لحين انتخاب رئيسٍ للجمهورية في شهر يونيو (حزيران) القادم. وإذا تجدد الاعتصام الحاشد، فستتجدد الصدامات مع قوات الأمن، وتُصبح المرحلة الانتقالية، وأعمال البرلمان الجديد (بما في ذلك اختيار لجنة كتابة الدستور) معرَّضةً للتهديد.
لماذا حصل الافتراق بين الشبان والعسكر، كما بين الشبان والأحزاب الإسلامية، وبعض الأحزاب المدنية؟ يعتقد الشبان أنّ العسكريين إنما اختاروا هذا المسار استنادا إلى اتفاق بينهم وبين الإخوان المسلمين، بحيث يفوز الأخيرون في الانتخابات، وتكون الرئاسة من حصة العسكر. وهذا التوافُقُ المكتوب أو غير المكتوب، يفترض أنّ الدستور إمّا أن يُكتب بالتراضي بين الفريقين بحيث يُعطي العسكر الضمانات والحصانات التي يرغبونها، فيمكن عندها أن يكون الرئيس مدنيا أو تكون ضمانةُ العسكر وامتيازاته، بقاء الرئاسة عنده من طريق أحد العسكريين المتقاعدين. ويذهب الشبان إلى أنّ هذا المسار إن تحقّق فإنه يعني أن نظام مبارك مستمر وما تغير غير الرئيس؛ في حين حلَّ الإخوان محلَّ الحزب الوطني الذي كان حاكما. وهكذا فهناك مخاطر على كتابة الدستور (مسألة المواطنة والدولة المدنية)، كما أنّ هناك مخاطر في عودة العسكريين إلى الحكم بطريقٍ مُوارب.

إنّ الواقع أنّ هذا الافتراض له شواهد وعليه تحفظات. فالمجلس العسكري أعلن مرارا أنه لا يريد امتيازات لا في الدستور ولا في الحكومة والبرلمان. وقد عبَّر عن انزعاجه من الإسلاميين من خلال الوثيقة التي كان الدكتور علي السِلْمي يقترحها بشأن المبادئ فوق الدستورية أو الحاكمة للدستور. كما أنّ العسكريين حاولوا ويحاولون من خلال المجلس الاستشاري الذي شكَّلوه أن يحدُّوا من صلاحيات مجلس الشعب في اختيار لجنة كتابة الدستور، وأن يحفظوا الطابع المدني والتحرري للدستور المُراد كتابتُه. إنما من جهةٍ أُخرى هناك المواجهات في ماسبيرو، وفي شارع محمد محمود وأمام وزارة الداخلية، وكلُّها شواهد على أنّ العسكريين يريدون وضْع الثورة ومقتضياتها وراءهم، واستعادة «النظام» بأي سبيل! بيد أنّ هناك من يقول إنه ربما كان العسكريون والشبان معهم قد وقعوا في الفخِّ نتيجة عدم الخبرة. فقد كان المسار الأفضل هو البدءُ بانتخاب الرئيس بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية. وفي ظلّ الرئيس الجديد تجري الانتخابات كما تجري كتابةُ الدستور في اللجنة المختصة، ثم يُعرضُ على الاستفتاء العام.

إنّ الذي يتبيَّن من هذه التفاصيل الخلافية أنّ الاتفاق ما يزال مُتاحا ما دام العسكر سوف يغادرون بعد انتخاب الرئيس، وإنما تبقى نقطة كتابة الدستور، واللجنة المختارة لذلك، والتي ينبغي أن يتمثل فيها سائر الأطراف. وهذا البعبع الذي يخشاه الجميع، ما عاد عليه خلافٌ كبير، لأنّ الجميع يسلِّمون ببقاء المادة الثانية في الدستور والتي تنصُّ على موقع الإسلام والشريعة في الدولة. وهناك من جهةٍ ثانيةٍ الموادّ الخاصّة بالحريات، والتي لا يستطيع أحدٌ في الواقع التلاعُبَ بها، لأنها إلى جانب المواطنة ومبادئها وضماناتها، تبقى الأهمّ في دستور الثورة أو ما بعد الثورة. والواقع أنّ هناك أمرا ثالثا بالغ الأهمية، وهو هل يكون النظام رئاسيا أم برلمانيا، بحسب الصلاحيات التي ينصُّ عليها الدستور لكلٍ منهما؟ ولولا الخلاف بين قوى الثورة، والشبان أو المجلس العسكري، لكان من المتوقَّع أن يُصرَّ كثيرون على برلمانية النظام خشيةً من التجربة الطويلة مع الاستبداد. لكنّ الانقسام بين قوى الثورة، وسيطرة الإسلاميين على البرلمان، يجعل من المرجَّح اجتماع الشبان والجيش وقوى شعبية أُخرى على بقاء النظام رئاسيا لاستحداث توازُن مع البرلمان إذا ما سيطرت عليه قوةٌ أو قوى يمكن أن تستمرئ الاستبداد الذي جربتْهُ عدة ديمقراطياتٍ من قبل.

الاتفاق أو التوافُق على حلولٍ وسطٍ ممكن إذن. وإنما تحول دونه أحداثُ هذا العام الطويل، والذي خلّف آثارا دعت من جهة البرادعي إلى الاستنكاف، والشبان إلى التشكيك في نوايا المجلس العسكري وتصرفاته. فالمسألة تكمن في فقد الثقة بين الأطراف الثلاثة الرئيسية في المشهد وهم الشبان والعسكريون والإخوان. وفقد الثقة هذا لا علاجَ له، ولذلك ظهرت التخوفات بشأن الخامس والعشرين من يناير الذي يحلُّ بعد أيام. وقد اختار شيخ الأزهر الاجتماع إلى الشبان لتهدئتهم ولطمأنتهم إلى حقّهم ودورهم في صون الاستقرار من جهة، والحريات والتعددية من جهةٍ أُخرى.
 

السابق
متديكة..تهاجم الديوك
التالي
العراق والتظاهر بإحكام السيطرة