جعجع في كردستان: استثمارات نفطية

يبدو أن زيارة رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع لكردستان العراق أثارت في بلاد الرافدين ردود فعل أكثر مما أثارته في لبنان، وحُمّلت تفسيرات عراقية داخلية، وخاصة لناحية العلاقات السياسية بين العرب والأكراد

بغداد | تعدُّ الزيارة التي قام بها زعيم ميليشيا «القوات اللبنانية» سمير جعجع إلى إقليم كردستان ـــ العراق أخيراً الأولى من نوعها، وهي تكرس، كما يرى مراقبون للشأن العراقي، اعترافاً كردياً، أو على الأقل من جانب رئيس الإقليم مسعود البارزاني وحزبه، بأنهم أصبحوا جزءاً عضوياً من معسكر الدول والقوى الشرق أوسطية التي توصف عادة بالمحافظة والمتحالفة مع الولايات المتحدة ودول الغرب. هذا الاندراج في المعسكر الغربي المحافظ، كما يلاحظ مراقبون، لم يبدأ مع زيارة جعجع، بل يعود إلى التسعينيات من القرن الماضي، حين هرعت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى للدفاع عن المعارضة الكردية للنظام الشمولي العراقي السابق، وساندتها في إنشاء كيانها شبه المستقل عن العراق، وتكرّس هذا الاندراج في ما بعد بقيام الحلف العسكري والسياسي بين الجانبين ـــ الغربي والكردي ـــ خلال غزو العراق.
الزيارة، بحسب مكتب جعجع، جاءت بناءً على دعوة تلقّاها الأخير من البارزاني. أمرٌ رفضت مصادر كردية تأكيده، غير أن المؤكد هو أن السبب الأقوى والحقيقي للزيارة كان اقتصادياً. يتعلق الأمر، وفق ما نشرته الصحافة العراقية الناطقة باللغتين العربية والكردية، بالاستثمار في ميدان إنتاج النفط في الإقليم الكردي الذي صار الدجاجة التي تبيض ذهباً منذ سنوات قليلة. جعجع ذاته أكد ما يؤيّد وجهة النظر هذه، حين أشاد خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده هناك بقوة الجذب التي يمارسها اقتصاد الإقليم الكردي في ميدان الاستثمارات، مؤكداً وجود أكثر من عشرة آلاف مستثمر لبناني، وممتدحاً أجواء «الاستقرار والسلام والأمن في الإقليم». هذا العدد الهائل من المستثمرين اللبنانيين في الإقليم يبدو مبالغاً فيه، إذ بلغت قيمة الاستثمارات في جميع المجالات خلال العام الماضي، كما أفادت إحصائية نشرتها هيئة الاستثمار في إقليم كردستان، أربعة مليارات دولار، حاز المستثمرون المحليون «وأغلبهم من الأسرتين المالكتين، البارزانية والطالبانية» على معظمها. وبغض النظر عن صحة أرقام جعجع هذه من عدمها، فإنّ مصادر مقرّبة من قيادات حزبية نافذة في بغداد سرّبت أنّ السماح لجعجع و أصدقائه بالاستثمار في نفط الإقليم ما هو إلا هدية من «الأصدقاء الأميركيين» الذين توسّطوا له عند أصدقائهم الأكراد، ملمّحين إلى أنها قد لا تختلف كثيراً عن تلك الهدية التي يشاع أنّ جنبلاط تلقّاها من فرنسا في ميدان استثمار النفط الليبي. بدوره، لم يبخل الزائر اللبناني بالهدايا المعنوية والمجاملات اللفظية على مضيفيه الأكراد. فقد زار قبر الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البارزاني وابنه إدريس، وأدلى بتصريح قوي قال فيه إنه سيكون مؤيّداً للأكراد إذا ما قرروا الاستقلال في دولة تخصّهم. وكزعيم مسيحي، لم ينس جعجع معاناة المسيحيين العراقيين، فدان عمليات الاعتداء التي استهدفتهم، وحمّل الحكومة العراقية كامل المسؤولية عنها.
في هذا السياق تحديداً، قال بعض المحللين إنّ جعجع بدا واضحاً، ولكن متناقضاً في آن واحد: فهو خصَّ بكلامه وإدانته عمليات الاستهداف التي تعرض لها المسيحيون لكونهم مسيحيين، ولم يقصد تلك العمليات الدموية والتفجيرات الكبرى التي تعرضوا لها قبل بضع سنوات فقال: «ربما كان مقبولاً في أيام العمليات الإرهابية والعمليات العسكرية في 2004 و2005 و2006 تعرض المسيحيين للاستهداف، لأن كل العراقيين كانوا معرّضين للإرهاب، ولكن ليس مقبولاً أنْ يتعرض المسيحيون حتى بعيداً عن الأسباب السياسية للاعتداء، وأنْ يستهدف مواطن بحدّ ذاته أو أنْ يدخل مسلحون مَشغلاً أو معملاً ويعتدون على المسيحي فقط». صحافيون رأوا أنّ لسانَ الضيف قد يكون زلّ زلة كبيرة حين وصف العمليات «الإرهابية» و«العسكرية» بـ«المقبولة»، وأضافوا أنه ربما كان يقصد أنها «مفهومة»!

محللون آخرون استنتجوا أنّ جعجع حاول عبر هذا التفريق إدانة الأعمال الطائفية التي تعرض لها المسيحيون في إقليم كردستان، ضمن أحداث وتداعيات ما دُعي حينها بـ«غزوة زاخو». لكن بعض هؤلاء المحللين سجلوا أنّ جعجع يناقض نفسه هنا، فهو يحمّل الحكومة العراقية مسؤولية ما حدث للمسيحيين في كردستان بقوله إن «على الحكومة العراقية تحمّل مسؤولياتها، لأن النحيب والبكاء على الأطلال لا يفيد، بل يجب اتخاذ إجراءات مناسبة حتى لا تتكرر هذه الأحداث، حيث إن تكرارها وصمة عار على جبين كل عراقي، وتتحمّل الحكومة العراقية بشكل أساسي المسؤولية»، على أساس أنّ إقليم كردستان الذي حدثت فيه تلك التجاوزات الطائفية شبه مستقل، بل هو منفصل تماماً من الناحية الأمنية والاستخبارية، فكيف يستقيم الأمر لجعجع ويتّهم بغداد بما يحدث في زاخو؟ أما قوله إنّ «تكرار تلك الاعتداءات على المسيحيين سيكون وصمة عار على جبين كل عراقي» ففيه، كما رأى البعض، الكثير من التجنّي والتعميم غير المعقول. فما ذنب مواطن عراقي بسيط داخل العراق أو خارجه إذا ما أساء عراقي آخر إلى مسيحي عراقي هنا أو هناك؟ الرد الحكومي على تصريحات جعجع جاء بعد ساعات قليلة، وعلى لسان ياسين مجيد، القيادي في ائتلاف «دولة القانون» الذي قال «إنّ المسيحيين العراقيين لا يشرّفهم أنْ يتحدث باسمهم رجل قاتل سبّب الكثير من المجازر من خلال شراكته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون والموساد».
محللون عراقيون أعربوا عن اعتقادهم بأن زيارة جعجع بحدّ ذاتها لا تحمل قيمة استراتيجية كبيرة لجهة تواضع وزنه السياسي، لكنها انطوت على الدلالات والإشارات التي تعرضنا لها، والتي كرّست التحاق زعامة الإقليم الكردي، والبارزاني خصوصاً، بمعسكر القوى المتحالفة مع الغرب إلى جانب قوى قديمة من حلفاء إسرائيل السابقين والغرب حالياً مثل سمير جعجع، وآخرين جدد كبرهان غليون الذي تزامنت زيارته لكردستان العراق مع زيارة جعجع، وتردد أنهما التقيا.
ناشط يساري عراقي عبّر عن هذه الفكرة حين كتب على صفحته في أحد مواقع التواصل الاجتماعي: إنّ البارزاني وزملاءه في الزعامة الكردية، وليس الأمة الكردية، هم من فرّط بأصدقاء مخلصين ومجرّبين طوال عقود جمعت بينهم المعاناة ومقاومة الدكتاتورية وتقاسموا ضريبة الدم، من أجل كسب أصدقاء جدد جمعته بهم المصادفة في محطة طارئة ولأسباب أصبحت معروفة! 

السابق
مراجع لبنانية: سوريا نحو الاستقرار
التالي
مهندس الحملة الاميركية على كوريا يربط بين ازدهار المصارف اللبنانية ونشاطات غير مشروعة لحزب الله