بيروت في السوق..الديموقراطية العربية

في ما يلي انطباعات صريحة عن نخب لبنانية وعربية كانت تشارك في "الطاولة المستديرة" لمؤتمر "الاصلاح والانتقال الى الديموقراطية" الذي عقدته أخيراً منظمة "الاسكوا" في فندق الفينيسيا في بيروت.

حضرتُ يوم الاثنين المنصرم "الطاولة المستديرة المغلقة" بحسب تصنيف بطاقة الدعوة الموجهة، والتي لم تكن مستديرة ولا مغلقة وانما كانت عمليا الندوة الختامية من المؤتمر.
لفتَ نظري بداية ان الشخصيات التي كانت مدعوة للتحدث على المنصة الرئيسية جميعها شخصيات عربية وتحديدا من مصر وتونس وفلسطين واليمن والمغرب وليبيا بالاضافة الى الامينة العامة (الاردنية) لـ"الاسكوا" ريما خلف. وكان اول انطباع ايجابي لديّ وقبل بدء اي مداخلة من ايٍ من شخصيات المنصة هو عدم وجود اي وجه لبناني بينها. وهذه "حركة" صامتة رشيقة تُسجَّل لمنظمي المؤتمر… فهي تعني عدم استحقاق لبنان موقعا قياديا على "الطاولة" لأن سجله التغييري خلال "الربيع العربي" في العام الفائت كان … ليس فقط شبه غائب بل كان متخلفا بسبب جمود نظامه السياسي الطائفي على المستوى الاصلاحي فكيف الثوري! وهذا معطى لم يعد يجرؤ كثيرون على نكرانه.
الانطباع الآخر هو الحشد النخبوي اللبناني في القاعة. وجوه وكوادر وموظفون كبار وسياسيون وخبراء ذوو كفاءات فعلية لكن بينهم من يأتي الى "المناسبة" بحثا عن التكيف مع "سوق" سياسية وفكرية جديدة في العالم العربي بعد ان كان مستزلما لهذه الديكتاتورية او تلك وهو الآن ينقل خدماته الى الديموقراطيات الجديدة او يطمح الى ذلك. كانت "روح" الجنرال المصري عمر سليمان أطال الله عمره و"روح" الجنرال السوري غازي كنعان رحمه الله تحومان في سماء القاعة، فيما كان هناك لبنانيون آخرون في القاعة يستحقون فعلا سمعتهم الاصلاحية ولو في تجارب جهيضة.
الانطباع الثالث عن النخبة العربية الحاضرة. بعضها قديم وبعضها جديد. كنت أَلحظ من مكاني رمزا استحق ان يدخل التاريخ بعد الثورة المصرية بسبب نضاله الريادي في تأسيس حركة "كفاية" هو جورج اسحق والذي لا اعرف اذا كانت الثورة المصرية ستعطيه وامثاله فرصة دخول المستقبل في ظل هيمنة التيارات الدينية على الانتخابات. كان على المنصة وزير خارجية تونس الجديد رفيق عبد السلام. مداخلته "التعددية" ليست فقط مطمئنة بل ذات مستوى ايضا الى حد ان جاري الصديق اللبناني المسيحي المتابع علّق بعد كلام هذا الاسلامي التونسي البارز مؤخرا بأن لدى الاسلاميين التوانسة مستوى حداثيا يتجاوز احيانا اسلاميي تركيا. لكن سؤالا ألح عليّ في تلك اللحظة: ألم يستعجل زعيم "حركة النهضة" الشيخ راشد الغنوشي في الاتيان بصهره وزيرا للخارجية كأنما انتقلنا فورا من "العائلات الديكتاتورية" الى "العائلات الديموقراطية"؟
كل الحاضرين العرب على المنصة الرئيسية ذوو سمعات حسنة لكن بمعايير تجارب مختلفة. فعمرو موسى كان جزءا من النظام السابق الا انه تحول الى رمز وطني بالقياس النسبي كلما كانت وطنية نظام حسني مبارك تتراجع تحت الحد الادنى او يوغل هذا النظام في سلوكيات كسرت هذا الحد الادنى بمعايير النخبة المصرية حيال العلاقة مع اسرائيل. بنى عمرو موسى سمعته الاولى في هذه الدائرة. ليس راديكاليا ولن يكون… بل هو لون "غربي" مُدرَّب في السياسة المصرية في زمن تبنّي النخب العربية للقيم الغربية الليبرالية وتبنّي حركات "الاخوان المسلمين" للقيم التعددية بل تبنّي الثورة الليبية للدعم العسكري الاطلسي الذي "فتح بابه" عمرو موسى ورحل عن الجامعة العربية. انه ابن بار للبيروقراطية في جناحها غير الملوّث بالمال العام المصري. مشكلته "الرمزية" لكن الجادة ان دعم المجلس العسكري له لرئاسة الجمهورية – اذا حصل – سيعني لكثيرين من الشباب المصري ان التغيير ليس جذريا في التركيبة الداخلية وان كانت دعوته الى نظام اقليمي جديد خارج النظام الحالي المتمحور حول الفتنة السنية الشيعية تستحق التوقف اذا كانت مصر الديموقراطية قادرة على بلورته في المرحلة البادئة لما بعد كل انماط أنظمة الاستبداد؟؟
السفير علي اومليل عالم الاجتماع السياسي المحترم الذي عين سفيرا قبل سنوات من ضمن بدايات النزوع الاصلاحي للعاهل المغربي محمد السادس وقبل الموجة الاصلاحية الكبيرة التي سرّعها وفرضها "الربيع العربي" هذا العام عبر الدستور الجديد… المناضل الفلسطيني المخضرم مصطفى البرغوتي… السيدة القاضية الليبية نعيمة جبريل المكافحة ضد ما سمته "اللانظام" الليبي السابق… رئيس الوزراء والسياسي اليمني العريق عبد الكريم الارياني… وجوه من اجيال مختلفة بعضها يتعرف عليه "جمهور بيروت" وبعضها يعرفه جيدا.
لكن بيروت مجددا ليست اكثر من"فيترينة" لجيل عربي جديد. وهذا دور خدماتي مهم في الثقافة والسياسة والسياحة سبق ان مارسَتْهُ مع انقلابيي وقوميي الخمسينات ويساريي ووطنيي الستينات والسبعينات واصوليي الثمانينات من القرن العشرين وها هي اليوم تجدده مع ديموقراطيي العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.
… انها مركنتيلية لبنانية في "السوق" الديموقراطية العربية الى ان يصبح ممكنا تغيير نظام الحرب الاهلية الذي يحكمنا فنصبح عندها شركاء في التغيير لا مجرد مروّجين…  

السابق
داخل الكهف
التالي
نقاشٌ مع سامي الجميّل