أقلمة الصراع وتدويله!

يرجح أن تشهد الحقبة المقبلة تعاظم الصراع في سوريا وعليها. ويرجح أن تلجأ السلطة إلى أقلمته، ردا على احتمالات تدويله، الذي تطالب به بعض المعارضة في الخارج، وكتل كبيرة من السوريين في الداخل.
بعد أن قام النظام بإفشال الحل الداخلي، الذي كان سيقتصر عليه وعلى المعارضة بمختلف أطيافها، فتح الباب أمام ما نسميه الحل العربي، الذي أدخل دولا عربية مختلفة المرامي والمقاصد إلى الساحة السورية، ووضع الحل في يد جامعة الدول العربية، التي كانت قد اعتمدت برنامجا يقوم على نقطتين: نقطة أولى تركز على خلق بيئة تهدئة تعبر عن نفسها في وقف الحل الأمني، وسحب الجيش من المدن والقرى إلى ثكناته، وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الأحداث الدائرة، ونقطة ثانية تلي نجاح تطبيق مرحلة الحل الأولى، ستأخذ شكل مفاوضات حول مرحلة انتقالية بين المعارضة والنظام، على أن تدور تحت إشراف الجامعة، التي ستضمن نتائجها فتنتهي الأزمة نظريا بخروج سوريا من وضعها الراهن ونظامها الحالي إلى وضع بديل، ركيزته التعددية السياسية والحزبية، والحكومة التمثيلية، والسلطة البرلمانية، والحياة الحرة والنظام الديمقراطي، فلا يبقى بعد ذلك ما يمكن أن يفرق السوريين أو يثير خلافاتهم، أو يحول بينهم وبين التمتع بحقوق متساوية أمام القانون وفي الواقع، كالحق في الاجتماع والتظاهر والتعبير عن أنفسهم ضمن فضاء يتسم بالتسامح والندية والوحدة الوطنية.

يعني إفشال الحل العربي فشلا مزدوجا: فشل تهدئة الصراع وفشل الانتقال إلى نظام بديل يقوم بتراضي السوريين وتوافقهم. مثل هذا الفشل لا يشجع خفوت أو تراخي المعركة الدائرة منذ نيف وعشرة أشهر، بل يفتح الباب لتصعيدها إلى حدود جديدة. وبما أن القوى المنخرطة فيها وصلت أو كادت إلى استخدام ما لديها من طاقات وقدرات، فإن التصعيد المرتقب يرجح أن يأخذ شكل توسع في الصراع، يعطيه معارضون كثيرون في الخارج وعدد كبير من المتظاهرين والمنتفضين اسم التدويل، الذي يرجح أن يقابله من الجانب الرسمي تطور يؤدي إلى إضفاء مزيد من الأقلمة عليه، مع ما سيعنيه ذلك من بروز أكبر لدور القوى والأحزاب الإقليمية المساندة له في إيران والعراق ولبنان.

هذا التطور حتمي بالنظر إلى موقف النظام من الصراع، وعمله على تحويله منذ بدايته إلى صراع يتخطى الداخل السوري، يدور بين قوى خارجية، إقليمية ودولية، وإن كانت أطرافه الظاهرة مباشرة سورية. وقد قدمت الأشهر الماضية إشارات عديدة تؤكد هذا المنحى، حيث تعالت المطالبة بالتدويل ردا على حملات القمع العاتية التي تعرض لها الشعب الآمن والأعزل في كل مكان، بينما تناقل الخلق أنباء كثيرة عن دعم إيراني مكثف للنظام تزايدت فيه المكونات العراقية واللبنانية، وأعلن قادة إيرانيون بارزون أهمهم المرشد خامنئي أن المعركة في سوريا إيرانية أيضا، واعتبرت أصوات في حزب الله ما يجري في سوريا جزءا من مؤامرة إمبريالية – صهيونية تستهدف المقاومة أيضا، ولمح السيد مقتدى الصدر في العراق إلى أنه لن يسمح بسقوط النظام في دمشق تحت أي ظرف.

 وكان النظام السوري قد اتخذ خطوات معينة لقطع الطريق على التدويل، أهمها تأجيج بؤر اضطراب وفتن متفرقة نشرها في كل مكان، وحرف النضال الشعبي عن هويته الأصلية كنضال في سبيل الحرية، وتحويله إلى اقتتال طائفي وفئوي متشعب، بهدف إخافة الخارج من التدخل واعتقاد دمشق الرسمية أن العالم سيعد حتى الألف قبل أن يتدخل في بلد يعيش حالة حرب أهلية أو أي حالة مشابهة لها. وهو يفكر اليوم في توسيع نطاق الصراع وجعله إقليميا، لاعتقاده أن العالم سيعد حتى المليون قبل أن يزج بنفسه في صراع تشارك فيه قوى إقليمية ذات عمق مذهبي واحد، معبأة ومنظمة ومسلحة حتى الأنياب، تستطيع استخدام مختلف أساليب القتال: من الحرب الأهلية، إلى حرب العصابات، إلى الحرب نصف النظامية، فالنظامية، لديها أنواع متطورة من السلاح ومراكز قيادة وتنسيق مدربة ومؤهلة للعمل في شتى الظروف، ستعمل موحدة بينما لن يواجهها العالم بوحدة مماثلة واستعداد مشابه، في حال قرر التدخل بقرار دولي من مجلس الأمن أو سواه من مؤسسات الشرعية الدولية.

اعتمد النظام الحل الأمني الرادع لإفشال الحل السياسي الداخلي، واستخدم حلا أمنيا إقليميا محدودا لإفشال الحل العربي، وهو سيلجأ إلى حل إقليمي موسع، يصير عند اللزوم شاملا، لمواجهة حل دولي يراه قادما. وسيعمل على تخويف العالم ثم على مواجهته بكل قوة، لاعتقاده أن ردعه ليس مستحيلا في ظل الانقسام الدولي حول الشأن السوري، وضعف أوروبا، وامتناع رئيس أميركا عن اتخاذ قرار بحرب ستكون طويلة وصعبة في عام انتخابات رئاسية، وغموض السياسات التركية، وعجز الخليج عن حسم معركة على هذا القدر من الاتساع، بل وخوفه من نتائجها على مجتمعاته ودوله! من يدري، فربما كانت هذه الحسابات هي التي جعلت الرئيس الأسد يتحدث عن الانتصار أمام مؤيديه في ساحة الأمويين، وجعلت بعض المعلقين يرون شيئا من الثقة بالنفس في خطابه الرابع منذ بدء الأزمة!
هل سيقع التدويل؟ ليس هذا مؤكدا بأي حال، بل هو أمر مستبعد إلى أبعد الحدود. هل سيتأقلم الصراع؟ هذا أمر لا شك فيه، وقد وقع وانتهى أمره، فلا مجال للحديث عنه بلغة تكرس في العادة لما هو آت من الزمان، بشهادة المرشد خامنئي، وخطب وشروح الرئيس الأسد، الذي يعتبر ما يجري في سوريا مؤامرة خارجية، وبالتالي جزءا من صراع يتجاوز الداخل السوري وينضوي في سياق آخر مختلف عنه، وإن كان في الظاهر جزءا منه.

ثمة طريقان ستذهب الأزمة السورية نحوهما هما: التدويل من جهة، والأقلمة من جهة أخرى. وفي حين يواجه الطريق الأول عقبات ومصاعب جمة، فإنه يشهد توسعا متعاظما تحت غطاء روسي، مع ما سينجم عنه من أعباء إضافية ستلقى على عاتق السوريين، وتضحيات جسيمة سيقدمونها، وخسائر فادحة سيتكبدونها. بكلام آخر: لن يقلل تحول طرفي الصراع نحو الخارج كجهة حسم من أهمية ودور الداخل وأطرافه، بل إنه سيزيدها بدرجة كبيرة، فهل يعي أنصار التدويل هذه الحقيقة ويراهنون على الداخل بوصفه ساحة الحسم الحقيقية، بعد أن تعاملوا معه كجهة مساعدة للخارج، الذي سيحررها بالتدويل، خاصة إن تبين في الآتي القريب من الأيام أن حساباتهم كانت رغبات وأماني صعبة التحقيق، وأن التدويل ليس بديل أقلمة مغطاة من طرف دولي، وأن الداخل وحده هو الجهة التي ستواجهها، ما دام التدويل لا يعني التدخل العسكري بالضرورة، كما يظن أنصاره السوريون، وقد لا يترتب عليه غير جرجرة الوضع الحالي لسنوات عديدة قادمة. 

السابق
الحراك الدولي
التالي
دور تركيا في الربيع العربي