البنك الدولي: مال الدولة سائب!

قبل أشهر، بدأ خبراء من البنك الدولي بإجراء تحقيق في النظام المعلوماتي المتّبع في وزارة المال. انتهى التحقيق، ليقول الخبراء الدوليون إن النظام المذكور متروك منذ عام 1994 بلا رقابة ولا إجراءات وقائية، ما يتيح التلاعب به بكل سهولة

انتهى التحقيق المعلوماتي الذي باشر بتنفيذه خبراء من البنك الدولي وشركة «أوراكيل» في وزارة المال. نتائج التحقيق التي اطلعت عليها «الأخبار» يمكن تلخيصها بالآتي: المال العام في لبنان كان منذ عام 1994 متروكاً بلا رقابة لجهة الصرف والإنفاق، متروكاً بلا محاسبة، متروكاً لنظام معلوماتي صادم، نظام يتيح لمن يشاء التلاعب بالمعلومات المالية، كيفما يشاء، وساعة يشاء! يصف التحقيق ما يحصل في وزارة المال، وتحديداً في إدارة المال العام بالـ«شخصنة». «المخاطر عالية». ويقول: أمن المعلومات المالية وسلامتها ضعيفان إلى درجة الانعدام، وبرنامج المعلوماتية المتعلق بالمال العام وكيفية الإنفاق على مدى السنوات المالية السابقة فيه «مخاطر جمّة». هذه المخاطر مرتبطة بالمعلومات المنقوصة والشكوك بصحتها. النظام المالي غريب، بيئة التحكم في البرنامج المالي ضعيفة جداً، وغير متوقعة. ويذهب خبراء البنك الدولي أبعد من ذلك. يرون أن من صمّم النظام المعلوماتي في الوزارة وطوره لم يتبع المبادئ الأساسية في هندسة هذا النوع من البرامج. لا وجود لأي تقسيم في المهمات، لا رقابة وقائية لضمان صحة المعلومات. ويصل الأمر إلى حد أن إمكان الدخول إلى النظام متاح، حتى من خارج الوزارة!

ببساطة، يقول البنك الدولي: «لا وجود لأدنى القواعد التي تحكم أنظمة المعلوماتية المالية الواجب اتباعها»! اكتشف خبراء البنك الدولي كيف تدار الأموال في الجمهورية اللبنانية. اكتشفوا كيف أن وزير مال «هندس» مثل هذا النظام المحاسبي، فصار رئيس حكومة اسمه دولة الرئيس فؤاد السنيورة.
يبدأ التقرير بتبيان أهمية وجود أنظمة المعلوماتية في وزارة المال لجهة كونها النظام الأساسي لتدوين المعلومات المالية ومعالجتها والإعلام عنها إلى كل من المؤسسات المحلية، كديوان المحاسبة، وإلى المؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولي. ينتقل التقرير في ما بعد إلى تبيان المآخذ على النظام المعلوماتي المعتمد في وزارة المال. يشرح قائلاً «إن هندسة البرنامج المعلوماتي المالي ليست متكاملة. تمنع الحصول على رؤية شاملة للأحداث المالية في مرحلة من مراحل الإدارة المالية (هذه الرؤية من المفترض أن تتوافر، لأنها تساعد على إدارة النظام المالي)». التحقيق ينحو إلى الدقة أكثر. يشير إلى أن معلومات مالية ذات أهمية عالية يمكن القول إنها مبعثرة. يؤكد أن وقائع كهذه تستدعي الشك في المبادئ الأساسية المعتمدة لإدارة المال العام في لبنان، في ظل غياب المبادئ المالية وأنظمة المعلوماتية الضرورية في هذا الإطار. لا بل إن هذا الغياب «يرفع مستوى الشك في صحة المعلومات المالية التي ينتجها هذا النظام، ويذهب إلى التشكيك في إمكان اعتماد هذا النظام المعلوماتي للحصول على المعلومات». يلخص تقرير البنك الدولي ملاحظاته بالآتي:
1 ـــــ النقص في تحديد مهمات كل من يستخدم النظام تقنياً ووظيفياً، وكذلك عدم توثيق عمل كل مستخدم للنظام لجهة تاريخ وتوقيت دخوله إلى النظام والعمليات التي نفذها، الأمر الذي يحول دون معرفة ما يقوم به كل مستخدم من جهة، ويحول دون معرفة من أجرى قيوداً معينة في أي من الأنظمة المستخدمة.
2 ـــــ ضعف الرقابة على النظام المعلوماتي، الأمر الذي يستوجب بذل المزيد من الجهد لتوفير الأمان لهذا النظام.
3 ـــــ عدم اكتمال العناصر الأساسية اللازمة لتوفير الرقابة الوقائية من جهة، ولإجراء التدقيق الفعال عند وقوع الخطأ من جهة ثانية. فالنظام المعتمد على صعيد الموازنة مثلاً، يتيح: عدم إقفال حسابات موازنة كل سنة مالية في الوقت المحدد لذلك، ما يوفر إمكان إدخال تعديلات وتغييرات عليها في كل حين. ويتيح إمكان تعديل عقود النفقة التي سبق إجراؤها وتصفيتها وحتى دفعها، وإمكان إلغاء أوامر دفع سلفات موازنة سبق دفعها، ومن ثم تسديدها من دون أي مستندات ثبوتية. ويتيح أيضاً إمكان إصدار أوامر وحوالات دفع عائدة لنفقات سبق دفعها في سنوات سابقة، وتسجيل بعض الالتزامات من دون تحريك الحسابات المقابلة كحساب الصندوق وحساب المصرف، وإمكان تعديل وتبديل قيود في حساب الصندوق والأموال النقدية، وكذلك إمكان إلغاء أوامر دفع سبق أن دفعت من الصندوق. إمكان إلغاء قيود في نظام المحاسبة في كل حين وتعديلها.
ويضيف التقرير إلى هذا الواقع المعقد لنظام المعلوماتية المعتمد في وزارة المالية أمرين أساسيين:
أولهما، ضآلة المعلومات، أو حتى عدم وجودها، عن النظام المعلوماتي المعتمد.
وثانيهما، أن هناك شخصانية ووحدانية في إدارة أكثر من نظام من أنظمة المعلوماتية، الأمر الذي يفقد إدارة النظام الصفة المؤسساتية.
ويخلص التقرير إلى الاستنتاج أن وضع النظام المعلوماتي المعتمد في وزارة المالية يستوجب العناية المباشرة والدقيقة والفورية من المسؤولين في وزارة المالية، ولا سيما في ما يتعلق بالمعلومات المالية التي يختزنها منذ عام 1994، ويدعو المسؤولين في الوزارة إلى اعتماد أكثر من مسؤول عن كل نظام لضمان استمرارية العمل من جهة، وتحويله إلى عمل مؤسساتي سليم بعيد عن الشخصانية.
نتائج التحقيق جاءت بالإثباتات الدامغة: نعم المال العام كان محط تلاعب! وتقاطعت هذه النتائج مع ما أظهرته جلسات لجنة المال والموازنة منذ أن باشرت نبش حسابات الدولة. وكانت المستندات التي أبرزت في جلسات اللجنة قد تضمنت مذكرة تحمل الرقم 156/1660 موجهة من النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة إلى وزارة المالية بتاريخ 20 تشرين الثاني 2008 بموضوع توفير الضوابط الفنية والقانونية اللازمة في البرامج المعلوماتية المعتمدة في مديرية الخزينة والدين العام. فقد ورد في هذه المذكرة حرفياً:

                                                                                                        

«بمناسبة التحقيق الذي تجريه النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة، بناءً على كتاب وزير المالية رقم 722/ص2 تاريخ 11 تموز 2008، والمتعلق بالإعلام عن مخالفة مالية متمثلة بوجود فروقات ما بين رصيد حساب الصندوق الداخلي للتعليم المهني والتقني في دفاتر الإدارة ورصيد الحساب نفسه لدى مديرية الخزينة والدين العام، تبين أن البرنامج المعد من المركز الآلي والمعتمد من الخزينة لإثبات ومعالجة عمليات القبض والدفع والتحويلات بين الحسابات… التي تقوم بها الخزينة يسمح، خلافاً لأبسط قواعد الضبط والأصول المحاسبية المقررة في التصميم المحاسبي العام وغيره من النصوص القانونية، بإضافة أو إلغاء قيود سبق تدوينها، الأمر الذي يتيح إخفاء انحرافات أو أخطاء أو مخالفات يمكن أن تستدعي الملاحقة».
ملاحقة لجنة المال لهذا الملف تنتظر إجراءات الحكومة؛ إذ يدعو تحقيق البنك الدولي الجهات المعنية، ووزارة المال خصوصاً، إلى القيام بإجراءات طارئة وفورية لمواجهة التحديات المتعلقة بأنظمة المعلوماتية المالية. مقربون من الصفدي لفتوا إلى أنه يستعد لطرح تقرير البنك الدولي وشركة «أوراكيل» على مجلس الوزراء، إن لم يكن يوم غد، ففي مطلع الأسبوع المقبل. العرض سيكون بعد إرسال نتائج التحقيق الحاصل إلى لجنة المال والموازنة النيابية. سبب عرضه على مجلس الوزراء معلومة. الوزير الصفدي يعلم أن هذا الملف شائك ودقيق، ويعلم أن المسؤولية المترتبة عن المخالفات الحاصلة ليست محصورة بوزارة المال؛ إذ تحتاج متابعتها وملاحقتها إلى قرار سياسي لبت العلاج. علاج يريده الصفدي جذرياً، لكن مسلحاً بقرار حكومي. ويؤكد مقربون من الصفدي سبق أن اطلعوا على نتائج التحقيق أن وزير المال سيطرح على مجلس الوزراء أسئلة ثلاثة:
كيف تريدون أن يكون الحل: إجراءات إدارية في الوزارة، أم ملاحقات لمسببي هذه الفوضى؟

في لجنة المال

منذ أن باشرت لجنة المال والموازنة النيابية، بحضور ديوان المحاسبة، عقد جلسات الاستماع إلى وزارة المال بشأن الحسابات المالية النهائية الممسوكة من قبل هذه الوزارة، تكشفت وقائع وحقائق عن واقع هذه الحسابات، وأبرزت مستندات تدل على التسيّب المتمادي في مسك حسابات الدولة وعلى الاستهتار بإدارة المال العام. الثغر التي تكشّفت كثيرة: نقص في رصيد سلفات الخزينة لغاية آخر عام 2005 بحوالى 5200 مليار ليرة، إلى عدم تسجيل هبات في الخزينة بأكثر من 143 مليار ليرة لبنانية عام 2005، وبأكثر من 56 مليار ليرة لبنانية عام 2001، ومن فقدان 451 حوالة دفع عام 2001، إلى فقدان شيكات. كذلك بيّنت تلك المداولات حصول تجاوز في الاعتمادات المرصدة منذ مطلع عام 1993، إضافة إلى النقص في حساب الصندوق وفي حسابات الخزينة لدى مصرف لبنان، إلى العبث في الحسابات، حتى بعد إقفالها. 

السابق
هدنة تاريخية على حافة الضياع
التالي
حرب أهلية تلوح في سورية