“مجانين” الشيعة: هل عادوا؟

محطة المنار، وفي سياق عرض الاستعدادات لإحياء أربعين الامام الحسين في مدينة بعلبك أمس الأول، كما بعض وسائل الاعلام الاخرى، اضاءت على ظاهرة جديدة في لبنان تتمثل في "انتقال مئات المواطنين الشيعة الى بعلبك سيرا على الاقدام وبعضهم حفاة… تعبيرا عن احياء هذه الذكرى". وهذه في لبنان ظاهرة جديدة، إذ لم يسبق ان شهدت ذكرى اربعين استشهاد الحسين هذه المظاهر او هذا الحرص على احياء المناسبة بهذه الطريقة التي تنم عن مبالغة، ان لم نقل إنّ فيها شيئاً من الغلوّ…
ذكّرني هذا المشهد بما قامت به مجموعة من عشرات المواطنين الشيعة في منتصف عقد التسعينات المنصرم، كان على رأسها الصديق فيصل عبد الساتر، والتي انطلقت من ضاحية بيروت الجنوبية الى مقام السيدة زينب في دمشق، سيرا على الاقدام.
تلك المسيرة، غير المسبوقة ايضا، جرى الترويج لها اعلاميا، ولاقت في ذلك الحين استهجانا، لا بل رفضا شبه عام، عبّر عنه عدد من المراجع الدينية، أبرزهم يومها الراحل السيد محمد حسين فضل الله، الذي ذهب حدّ وصف السائرين بـ"المجانين".
لا يمكن فصل المشهد البعلبكي الجديد عن نزعة يقودها حزب الله هدفها تعميق خطير لمشهد الخصوصية الشيعية لم يسبق ان شهده لبنان. فتعظيم هذه الخصوصية يأتي في سياق توظيفها ضمن مواجهة "ما يجري في المنطقة"، ليطرح السؤال: أيّ إسلام تروّج له المغالاة؟

لعله السؤال الذي طرحه الكثير من المراجع الدينية في مواجهة نزعة الغلوّ التي كانت تتسلل الى البيئات الشيعية من خارجها. إذ لم يكن شيعة لبنان، في عقود سابقة، يشكون من عقدة نقص في انتمائهم الى التشيّع وعقيدة الاسلام، لا بل يدركون انهم في قرون سابقة حملوا لواء التشيّع عالميا، وكانت لهم اسهامات جعلت جبل عامل معلما ومنارة على الصعيد الفقهي والفكري والثقافي. ولم تواكب هذه الظواهر بإحياء ذكرى اربعين الامام الحسين بالشكل الذي نراه اليوم، لا بل ان احياءها يبدو جديدا ومبالغا فيه ولا يصب الا في تظهير الشيعة وخصوصياتهم بشكل مشوّه، بغاية الاعلاء من رتبة العصبية على حساب العقل، لدى هذه الفئة، واظهارها مجموعة منفعلة في الفضاء اللبناني، فضلا عن الفضاء الشيعي العام.
وعلى غير عادته عمد حزب الله، المنظم لاحياء الذكرى، الى تقديم، في احتفال بعلبك، بعض ممن كان يرفض ان يتقدم الى منبره من المنشدين وقرّاء السيرة بسبب "تطرّفهم"، ما يؤكد أنّ الايغال في تظهير الخصوصية ومخاطبة عواطف الناس على حساب تهميش العقل يُستحضر ويُروَّج له ويُثنَى عليه في وقت نسمع تحذيرات من قيادة هذا الحزب حول وجود من يخطط دوليا لاحداث الفتنة السنية – الشيعية على مستوى لبنان والمنطقة: فهل لعاقل التصديق ان المبالغة في ابراز الخصوصية المذهبية هي الوسيلة لمواجهة مثل هذه المخططات… ؟

يؤخذ اليوم التشيع الى حيث لا يليق بسيرة الرسول وبسير الائمة، ويراد لابنائه ان يذهبوا الى منطقة اللاعقل، وأن تنتقل الى ابناء المذهب تقاليد ومظاهر هي بنت بيئات شيعية مغلقة على نفسها. وبدل ان يعكس التشيع في لبنان غنى تجربة التفاعل الثقافي والفكري والبيئة المنفتحة على تنوّع غنيّ وأخّاذ، نرى في بعض النماذج المستحضرة، من تلك التي تحتل الشاشات والساحات اليوم، نماذج تزيد من نفور العاقل وتظهر بشكل سافر استخدام العصبية الرخيص والاستثمار السياسي الخبيث لسيرة عاشوراء.
ويترافق هذا النزوع مع انكفاء شبه كامل لمشاركة بقية اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين في احياء ذكرى عاشوراء، لتتحول الى مناسبة حزبية صرفة، او مذهبية صرفة، في حين كان منبر عاشوراء اللبناني مجالا لاستكشاف الابعاد الانسانية العميقة لثورة الحسين في نفوس غير الشيعة من المسلمين والمسيحيين، بل وحتى من غير المتديّنين…

أحد القادمين الى بعلبك السبت الفائت قال لـ"لمنار"انه جاء من خارج لبنان من اجل المشاركة في هذه المسيرة. ما يضطرنا إلى القول إنّ إحياء ذكرى الاربعين بهذه الصورة وما رافقها ليس عفويا، بل هو يعكس غياب المرجعية الشيعية الراشدة في لبنان، تلك القادرة على القول ازاء هذا المشهد: كفى… كما قالها السيد محمد حسين فضل الله قبل نحو عقدين.

قبل رحيله عن عمر يناهز الـ96 عاما قال لي أحد مؤرّخي (الشيعة) الكبار الراحل حسن الامين، صاحب "دائرة المعارف الاسلامية الشيعية" وغيرها من عشرات الكتب (توفي العام 2002)، إنّ أهمّ من كتب عن أئمة الشيعة هم مفكرون وادباء لا ينتمون الى المذهب الشيعي، وذكر اسماء منها عباس محمود العقاد وعبد الرحمن الشرقاوي وعبدالله العلايلي وجورج جرداق وبولس سلامة وغيرهم… لكنّه استدرك ان هذه القاعدة شابها استثناء وحيد هو كتاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين: "ثورة الحسين".
فمن أبعد غير الشيعة عن مجال عاشوراء؟ ومن الذي يغفل "انفتاح" شيعة لبنان وتنوّعهم وغنى تجربتهم وسعتها؟… ولماذا!؟

 

السابق
التالي
اللواء: أوغلو جال على الرؤساء الثلاثة والتقى السنيورة وجنبلاط وحزب الله والمرجعيات الدينية