الانتفاضات والنموذج اللبناني

مع اندلاع الانتفاضات العربيّة ظهر ميل لبنانيّ واسع إلى تسخيف النفس واعتبار لبنان «بلداً بلا معنى». وكان ما يزكّي هذا الميل أنّ الطبقة السياسيّة اللبنانيّة «بلا معنى» فعلاً، إلاّ أنّ الخواء الذي استُنتج من خوائها ثمّ جرى تعميمه يفيض عن واقع الحال ويتعدّاه.

كانت حماسات واندفاعات كثيرة تقيم وراء هذا التسخيف الواسع. إحدى الحماسات قديمة المصدر تتحدّث عن «استحقاق» الوطن بالدم والتضحيات والانتفاضات. فإن لم تكن هناك قدرة على إشعال انتفاضة انتفى كلّ معنى للبلد ولم يعد يرادفه إلاّ السخف المحض.

وهذه الحساسيّة فاتها أنّ الوطن بوصفه استحقاقاً نضاليّاً إنّما تضرب جذرها في الفكر الاستبداديّ والتقديسيّ، إذ الوطن مكان للعيش والتعايش بين أفراد ينظّم القانون علاقاتهم، لا أكثر من ذلك ولا أقدس. لكنّ الأمر الآخر الذي فاتها أنّ الانتفاضات تحصل اضطراراً لا اختياراً: ذاك أنّ النظام المستبدّ يغلق كلّ احتمال سياسيّ للتغيير فيغدو الانتفاض عملاً مشروعاً ومطلوباً. على أنّ ما هو أفضل من ذلك هو ألاّ يحصل ذلك، أي ألاّ يقوم استبداد يستدعي، في المقابل، انتفاضاً.

وفي لبنان هناك من علامات القصور والتأخّر الكثير، إلاّ أنّ الاستبداد الحاكم ليس واحداً منها. وهذه ليست، بطبيعة الحال، دعوة إلى الرضا عن النفس، إلاّ أنّها دعوة للتمعّن في التركيبة الطائفيّة بأوجهها جميعاً. وهنا يقع الخطأ الأكبر للمتشوّقين إلى انتفاضة في لبنان ممّن تحبطهم حيلولة الطوائف دونها. ذاك أنّ زعماء الطوائف لا يفرضون أنفسهم على طوائفهم بالمعنى الذي فرض معمّر القذّافي وبشّار الأسد نفسيهما على الشعبين الليبيّ والسوريّ. إنّهم (ويمكن أن نضيف للأسف إذا شئنا) زعماء شعبيّون، بمعنى أنّ طوائفهم تريدهم زعماء لها، فإذا ما تجاوزتهم تجاوزتهم إلى مَن هم أكثر تشدّداً في تمثيلها.

يقال هذا للتوكيد على أهميّة المجتمع، قياساً بضآلة أهميّة الدولة، في التركيبة اللبنانيّة. وهذا الواقع من دون أن يعفي من النواقص والعيوب الكثيرة، بما فيها العيش الدائم على تخوم حرب أهليّة، يُخرج مسألة الاستبداد من التداول والنقاش السياسيّين.

لكنّ النزاهة تقتضي القول إنّ الانتفاضات العربيّة لم تبرهن على سخافة لبنان بقدر ما برهنت على طليعيّته. فإذا صحّ أنّ المسألة الأساس هنا هي مركزيّة الاجتماع، صحّ أيضاً أنّ المسألة الأساس في البلدان المنتفضة هي معس الاجتماع لصالح الدولة. وإذ يتسنّى للانتفاضات الراهنة أن تعطي الاجتماع هيئة وشكلاً، يتبيّن كم أنّ «اللبننة» حالة شاملة تطلّ من تحت أنقاض الكبت المديد في سائر العالم العربيّ.

فمن السودان إلى العراق، ومن ليبيا إلى البحرين، هناك لبنانات لا تُحصى، كانت أهميّة لبنان أنّه الوحيد بينها الذي اعترف بوجودها وحاول، بأقدار متفاوتة من النجاح، تنظيم اشتغالها. وأغلب الظنّ أنّ الكثير من الاستبداد الذي عرفناه في العراق وسوريّة وغيرهما نجم عن الرغبة «القوميّة» في تفادي الاعتراف بهذا الواقع اللبنانيّ المختبئ في تلك المجتمعات. وفي المقابل، فأحد أبرز أسباب انتهاء النموذج اللبنانيّ إلى ما انتهى إليه هو أنّ اللبنانيّين، أو بعضهم، اشتهوا لأنفسهم أنظمة الاستبداد المجاورة، قبل أن يشتهوا لأنفسهم الانتفاض المجاور.  

السابق
الحياة: يعود إليّ قرار التمديد للمحكمة وسنبحث التداعيات السورية على لبنان
التالي
الانباء: بان كي مون يدعو لحسم مسألة سلاح حزب الله داخلياً وبري يطرح معه ترسيم الحدود البحرية للبنان