فصل الخطاب

اغرب من خطاب الرئيس السوري بشار الأسد، ردود الفعل عليه. معظمها احتوى على مصطلحات غربية، ترد بين الحين والآخر في البيانات الرسمية الاميركية او الاوروبية، مثل الانفصال عن الواقع او الانقطاع عن العالم او الإغراق في الدم، وصولاً الى الاستنتاج أنه فقد شرعيته ويجب أن يرحل.

سيرة الاسد وتاريخه وتجربته، وبينها ما هو لبناني لم يطوه النسيان بعد، تسمح بالاستنتاج الفوري ان الخطاب كان واحداً من ابرز تجلياته ، وقد عبر فيه عن شخصيته الحقيقية سواء عندما كان يقرأ من النص او عندما كان يرتجل، وكشف عن خطته الفعلية التي لا تحتمل الجدل، والتي تستكمل صراعاً بدأه والده الراحل حافظ الاسد، واستعاد الابن بعض مصطلحاته وتصنيفاته وتوصيفاته التي كانت رائجة في ثمانينيات القرن الماضي، وأجرى مقارنة صريحة بين عناوين تلك المرحلة وبين عناصر الأزمة الراهنة.

ربما كانت هذه الاستعادة هي اهم ما جاء في الخطاب: الاسد الابن لا يزال في حقبة الثمانينيات بكل ما تعنيه الكلمة من تواطؤ عربي على الاب دفعه للذهاب الى طهران الثورة الإسلامية، ومن ضغط غربي لم يتوقف الا عند التفاهم على انهاء الغزو العراقي للكويت، لكنه تجدد في اعقاب الغزو الأميركي للعراق وتطور في اعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى بلغ ذروته الحالية.

ليس هناك انقطاع عن العالم او عن الواقع كما يحلو للبعض أن يردّد. هذا هو العالم الذي يعيش فيه الأسد الابن منذ أن كان طفلاً في الثمانينيات ، والذي ذكر به المستمعين الى خطابه في جامعة دمشق وطالبهم بعدم نسيانه، مع أن غالبيتهم تكبره سناً. وهذا هو تحليله الطبيعي للثورة الشعبية الراهنة التي تستهدف نظامه وتهدده، والتي هي عبارة عن مجموعة من اللصوص والقتلة والشياطين والمتآمرين والإرهابيين الذين ينبغي التخلص منهم فوراً ومن دون تردد، وقبل الإصلاح الذي بدأ وهو يسير بشكل طبيعي أيضاً، وبمعزل عن مطالب الشارع.

قد يكون هذا العالم الذي يعيش فيه الاسد خيالياً بالنسبة الى سواه، لكن الخطاب قدّم صورة في السياسة والأمن والاجتماع والاقتصاد وحتى الزراعة لا توحي بأن الرئيس السوري واهم. التقارير التي يتلقاها والاجتماعات التي يعقدها لا تقود الا الى مثل هذا الاستنتاجات، ولا تصف الثورة الا بصفتها بؤراً معزولة لا يزيد عدد المتجمعين فيها عن بضعة آلاف من السوريين.

قبل الخطاب سربت مصادر رسمية سورية معلومات عن ان الاسد سيرسم خريطة طريق لإصلاحات جدية تنفذ في فترة لا تزيد عن أسابيع، وانه سيعلن التمسك بالحل العربي الذي يعرف القاصي والداني أنه خشبة خلاص لنظامه اكثر مما هو عملية تآمر عليه. ربما خاب ظن تلك المصادر التي يبدو انها بسذاجة بعض المعارضين السوريين او بعض العرب او بعض الأميركيين والأوروبيين الذين ما زالوا يتوقعون من الرئيس السوري صدمة إصلاحية تنهي الكارثة التي تسير نحوها سوريا.

لا داعي للمفاجأة. هذا هو الاسد وهذا هو عالمه وهذا هو تحليله، وقد فصله في خطاب مطوّل لا لبس فيه ولا حساب بعد الآن لكلفته الدموية الباهظة.  

السابق
مجدلاني: الحكومة ليست مقررة في موضوع التجديد لبروتوكول المحكمة
التالي
الأسد يسابق المهلة المحدّدة لمهمة المراقبين