الاخبار: مشهد سوريالي في لجنة المـؤشّر الاتحاد ضد العمال

المشهد في اجتماع لجنة المؤشّر أمس كان «سوريالياً» بامتياز! ممثلا العمّال كانا يتماهيان كلياً مع ممثلي أصحاب العمل، وتصرّفوا كفريق واحد، فأصرّوا على تحديد الحدّ الأدنى للأجور بـ 675 ألف ليرة، رافضين رفعه إلى 800 ألف ليرة بحسب مشروع وزير العمل
الأجواء قبيل اجتماع لجنة المؤشّر أمس لم تكن تشي بالفشل الذريع الذي انتهى إليه؛ فالاتصالات السياسية مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس تكتل التغيير والإصلاح ميشال عون وقيادة حزب الله، التي جرت بعيد صدور الرأي «الإيجابي» من مجلس الشورى بشأن مشروع مرسوم تصحيح الأجور الأخير، أعطت انطباعاً بأن الأمور تتجه إلى الحسم السريع، وأن اجتماع اللجنة سيخلص إلى التوافق السهل على الصيغة القانونية لترجمة الاتفاق «الرضائي» الموقّع بين قيادة الاتحاد العمّالي العام وبعض هيئات أصحاب العمل… إلا أن الحصيلة جاءت مناقضة تماماً لهذا الانطباع؛ فقد بدا أطراف هذا الاتفاق غير مستعدين لأي نقاش «يقونن» اتفاقهم، مضفين عليه طابع «القداسة»، رغم أن آراء الجميع في الاجتماع، بمن فيهم هذه الأطراف نفسها، كانت متفقة على عدم قانونيته واستحالة موافقة مجلس الشورى عليه لمخالفته القوانين والاتفاقيات الدولية التي صدّق عليها لبنان. وهذا ما أثار تساؤلات كثيرة عن حقيقة مواقف الأطراف السياسية ومدى رغبتها في الوصول بملف تصحيح الأجور إلى خاتمة سعيدة تسمح بصون الأجر وتصحيحه بعد 16 عاماً من التشويه المتواصل الذي أضرّ بمصالح الأُجراء والاقتصاد معاً.

فالأجواء الإيجابية التي عكستها الاتصالات السياسية لم تظهر في مواقف الأطراف المعنية داخل الاجتماع، بل بالعكس، بدا أن هناك نيات مسبقة لإفشال الجهود الحثيثة والمضنية التي بذلها وزير العمل شربل نحّاس للوصول إلى صيغة مقبولة من الجميع؛ إذ إن هذه الجهود اصطدمت بما يشبه الحلف الوثيق بين رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن وممثلي هيئات أصحاب العمل، إلى درجة أن ممثلي هيئة التنسيق النقابية والخبراء المدعوين إلى المساهمة في النقاش أعربوا عن استغرابهم الشديد لهذا المشهد «السوريالي» الذي جعل ممثل العمّال يتماهى كلياً مع مواقف أصحاب العمل الرافضة لأي صيغة قانونية تُنهي بدعة بدل النقل وتعيد الاعتبار إلى مفهوم الأجر وتوفّر الحماية المطلوبة للأُجراء في القطاعين العام والخاص.هذا الموقف السلبي المسبق لدى ممثلي أصحاب العمل ورئيس الاتحاد العمّالي منع النقاش من تجاوز نقطته الأولى المتمثّلة بتحديد الحد الأدنى للأجور، وهو ما دفع الوزير نحّاس إلى تعليق الاجتماع، بعد أربع ساعات ونصف ساعة من النقاشات المتواصلة، داعياً المشاركين إلى التشاور مع مرجعياتهم قبل حسم الموقف نهائياً في جلسة نهائية ستعقد عند الرابعة من بعد ظهر اليوم، محذّراً من أن الفشل سيكون مكلفاً على الجميع؛ لأنه سيفوّت فرصة نادرة متاحة الآن لتصحيح كل الاختلالات التي اعترت سياسة الأجور في السنوات الخمس عشرة الماضية.

كيف بدأ النقاش؟ وكيف انتهى؟

بداية، عرض وزير العمل مشروع المرسوم الجديد ورأي مجلس شورى الدولة الإيجابي فيه، فأوضح أن هذا المشروع يحدد الحد الأدنى للأجور بمبلغ 800 ألف ليرة، وهذا الرقم بني على المادة 44 من قانون العمل التي تنص على وجوب أن يكون الحد الأدنى كافياً ليسد حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته، مشيراً إلى أن الدراسات بيّنت أن خطّ الفقر الأعلى في لبنان يراوح ما بين 820 ألفاً و870 ألف ليرة شهرياً. ولفت نظر المشاركين إلى أن الحد الأدنى المقترح يتطابق مع ما توصّل إليه الاتفاق بين الاتحاد العمّالي والهيئات الاقتصادية، إلا أنه يضعه في إطاره القانوني؛ فالاتفاق المذكور ينص على تحديد الحد الأدنى بمبلغ 675 ألف ليرة، إلا أنه يُبقي بدل النقل خارجه، وبالتالي يعرّض أكثرية الأجراء لمخاطر عدم الاستفادة منه، فضلاً عن أن مجلس شورى الدولة اعتبر مراراً وتكراراً أن التدخّل في تحديد بدل النقل باطل وغير قانوني، وشرح وزير العمل أن الحجج التي يستند إليها ممثلو أصحاب العمل لرفض رفع الحد الأدنى إلى 800 ألف ليرة سقطت بموجب الاتفاق الذي وقّعوه؛ إذ إن الكلفة الفعلية المترتّبة على المؤسسات ستكون أدنى في صيغة مشروع المرسوم المقترح بالمقارنة مع الاتفاق المذكور؛ ففي الصيغة الأولى تبلغ الكلفة نحو 968 ألف ليرة (بعد احتساب الاشتراكات المستحقة لصندوق الضمان بنسبة 21%)، في حين أنها تبلغ في الاتفاق 999 ألف ليرة؛ إذ إن الحد الأدنى المقترح من هيئات أصحاب العمل يبلغ 675 ألف ليرة، تُضاف إليه اشتراكات الضمان بقيمة 142 ألف ليرة وبدل نقل بقيمة 182 ألف ليرة.
لم تكن هذه التوضيحات كافية؛ إذ أعلن ممثلو أصحاب العمل رفضهم لأي تعديل في قيمة الحد الأدنى المقترح من قبلهم، بذريعة أن رفعه إلى 800 ألف ليرة يضرّ بجاذبية لبنان للاستثمار، وهو ما حاجج به أكثرية المشاركين، مشككين في هذه الحجّة، باعتبار أن المستثمرين ليسوا أغبياء لكي لا ينتبهوا إلى أن الحد الأدنى الفعلي بعد إضافة بدل النقل هو أعلى من الحد الأدنى المعلن، وهذا ما دفع ممثل هيئة التنسيق النقابية نعمة محفوض إلى اتهام ممثلي أصحاب العمل بأنهم يريدون «بلف» العمّال، لا المستثمرين، معتبراً أن إصرارهم على عدم التخلّص من بدعة بدل النقل هدفه تغطية المؤسسات وأصحاب العمل الذين يمتنعون عن تسديد بدل النقل ويحرمون الأُجراء جزءاً مهماً من أجورهم.
المفاجأة كانت بتبنّي رئيس الاتحاد العمّالي غسان غصن لوجهة نظر ممثلي هيئات أصحاب العمل، فدافع عن اتفاقه معهم، ورفض أن يعلن موافقته على الصيغة القانونية، مفضلاً أن يبقى بدل النقل خارج الأجر، ولم يعر أي اهتمام للتوضيحات بأن مجلس شورى الدولة يتجه إلى إبطال كل المراسيم السابقة التي تحدد هذا البدل، متذرّعاً بأن هذا البدل هو حق مكتسب ولا يمكن أحداً أن يبطله، علماً بأن الخبير الاقتصادي كمال حمدان أوضح أن لديه دراسة تفيد بأن نسبة كبيرة من الأُجراء لا تتقاضى بدل النقل أصلاً، ووعد المشاركين بتزويدهم بهذه الدراسة في جلسة اليوم.
واضطر الوزير نحّاس إلى تعليق الاجتماع ثلاث مرّات لكي يمنح الأطراف المشاركة فرصة للتباحث انفرادياً قبل حسم المواقف، معتبراً أنه بذلك يمنح التوافق فرصاً إضافية. لكن اللافت أن غصن كان ينفرد في كل مرّة بممثلي أصحاب العمل ويعود معهم إلى تكرار الموقف نفسه، أي رفض صيغة إلغاء بدل النقل ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 800 ألف ليرة والتمسك بالاتفاق الذي ينص على تحديده بمبلغ 675 ألف ليرة. وهذا الموقف السلبي المتصلّب منع المشاركين من الانتقال إلى النقاط الأخرى المتعلّقة بتحديد نسبة غلاء المعيشة وتحديد الشطور التي سيصيبها التصحيح، ما دفع الوزير نحّاس إلى التذكير بأنه أعلن في مجلس الوزراء سابقاً أنه لن يوقّع أي مرسوم ينطوي على مخالفة قانونية، فردّ رئيس جمعية تجّار بيروت نقولا شمّاس، بأن موقف الهيئات واضح: الحدّ الأدنى بـ675 ألف ليرة، ونقطة على السطر. فيما أعلن غصن أن الاتحاد العمّالي العام يتمسك بالاتفاق مع أصحاب العمل ما داموا لم يوافقوا على صيغة نحاس.
انتهى الاجتماع إلى الفشل، وخرج نحّاس ليوضح أمام وسائل الإعلام أن الصيغة القانونية لترجمة الاتفاق بين هيئات أصحاب العمال والاتحاد العمالي تعني أن لا يتكبّد أصحاب العمال أكثر مما التزموا دفعه، وأن لا يحصل الأُجراء على أكثر مما وافق عليه الاتحاد العمّالي… وهذا ما حاولنا القيام به، وأيّدنا فيه مجلس شورى الدولة؛ عبر العودة إلى احتساب نسب ارتفاع الأسعار منذ آخر تصحيح قانوني للأجر حصل في مطلع عام 1996وإلغاء بدعة بدل النقل من دون ترتيب أي كلفة إضافية مقارنةً بما رتبه الاتفاق المذكور. لكن للأسف لم نلقَ من الهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي العام، على خلاف ما لقيناه من هيئة التنسيق النقابية، تأييداً يفضي إلى تحقيق هذا الإنجاز.  

السابق
بين الجامعة وواشنطن والاتحاد الاوروبي وتركيا… من الكذاب في ملف سورية؟
التالي
مرض الرعام في لبنان: والضحية الاولى طالب جامعي