الحوار: الاستراتيجية العليا في لبنان

بعيداً عن الضوضاء الإعلامية، وا لطروحات الديماغوجية، والمصالح التنظيمية الضيقة، والمنافع الشخصانية للزعامات المحلية، وفي سبيل حوار هادئ ورصين، يتوجب علينا وقبل دراسة الاستراتيجية العسكرية الدخول في مسح جدي لعناصر القوة والضعف في الاستراتيجية الشاملة للدولة في لبنان، بإعتباره كياناً موجوداً، بغض النظر عن التصورات العقائدية التي تتعامل مع كينونته وتاريخه.

يتميّز لبنان بالموقع والمناخ والتضاريس، وتنقصه المساحة التي تؤثر بشكل مباشر في الصناعة والزراعة كعوامل اقتصادية. الموقع والمناخ حوّلا الاقتصاد الى اقتصاد خدمات يقوم على السياحة والترانزيت، واقتصاد الخدمات اقتصاد هشّ، يرتبط بالظروف الأمنية، وبطبيعة العلاقة بالدول المجاورة، تحديداً سورية التي نتشارك وإياها معظم الحدود البرية القائمة.

يتميز لبنان أيضاً بالنشاط الفردي على المستوى الاجتماعي _الاقتصادي، وفي الميادين العلمية والثقافية، إلاّ ان هذا النشاط لم يترجم الى انصهار وطني وتماسك مجتمعي إلاّ بالشكل. الإبداع والمبادرة الفردية لم ينطلقا من واقع مؤسسي ولم يتحوّلا الى مأسسة دولانية. حتى الانتشار اللبناني في المغتربات، وإن ساعد في الموارد غيرالمنظورة للدولة في أيام الشدائد، بقي في السياق العائلي والأسري ولم يترجم كرافد إقتصادي وسياسي للمؤسسات.

الجيش كركيزة أساس يمتلك الخبرات الممتازة والقدرات العلمية المتقدمة والتنظيم الجيد والموقف السليم، الا انه مكبّل بمسألة التسليح النوعي المتكامل التي أدّت على امتداد تاريخه الى اتخاذ مواقف دفاعية غير رادعة بما فيه الكفاية، رغم البطولات التي سطّرها في أكثر من موقع ومكان.

يقع لبنان تحت تأثير مشاريع جيوبوليتكية وجيواستراتيجية متعددة المصادر، شرقاً وغرباً، رفعت وتيرة الانقسامات وزادت في الشروخ الداخلية للانتماء الوطني، ورغم أن لبنان عضو مؤسس في الجامعة العربية، لم تستطع هذه الجامعة ان تقدم إليه الحماية، مثلما لم تستطع أن تقدّم إلى غيره، فهي عجزت عن منع التقسيم في السودان، ولم تستطع ردع الاعتداءات المتكررة على لبنان وسورية والأردن ومصر، ولم تستطع استعادة ولو جزءاً من فلسطين. فهي منظمة عاجزة عن تعميم حتى اللغة العربية على جميع اعضائها. أما الأمم المتحدة وهي عصبة الدول المنتصرة بالحرب، فتنفّذ مخططات ومصالح الدول الكبرى المتشاركة في مجلس أمنها. في الجنوب "اسرائيل"، كيان عنصري، استعماري، استيطاني قائم على انقاض فلسطين، له أطماع واسعة في المنطقة، خاصة في لبنان. واجتياحات هذا الكيان المتكررة للأرض اللبنانية، واعتداءاته على السكان والمياه، في ظل غياب الدولة القوية والقادرة، أدت الى قيام مقاومة، حققت انجازات كبيرة في الصمود والتحرير.

لا يملك لبنان في الواقع أياً من عناصر القوة المستدامة، لا في الاقتصاد ولا في القدرة العسكرية الحالية من دون تسليح حقيقي للجيش، ولا في السياسة والديبلوماسية غير المدعومة بالقوة. ان شبكة العلاقات والصداقات الدولية تفيد بقدر ما تمتلك من وسائل يحتاج إليها الآخر في عملية تبادل المصالح والمنافع.

يحمل الموفدون الديبلوماسيون والسياسيون الاجانب، بالوكالة او بالأصالة، في جعبهم ثلاث أوراق، لا غير، يفاوضون على أساسها، مع الدولة ومع القوى السياسة المحلية التي درجت على نسج علاقاتها الخارجية بصورة مستقلة عن مؤسسات الدولة. هذه الاوراق هي: النفط اللبناني القابل للاستخراج من المياه الاقليمية، المقاومة وسلاحها، وتوطين الفلسطينيين في لبنان. إنها الأوراق الضاغطة الوحيدة التي تملكها الدولة. أما باقي المواضيع فمسائل فرعية تخدم سلبا أو إيجاباً ثالوث القوة المذكور اعلاه. ففي هذا الثالوث المتداخل تقع الأهداف الأساس ومصائرها للمشاريع الخارجية: أمن "إسرائيل"، واستمرار الهيمنة على مقدّرات العالم المادية.

ان استمرار الارتهانات لمشاريع الآخرين، في سبيل تحسين المواقع الداخلية للقوى المحلية، قوّض مفهوم الدولة وأسقط قدرتها على استخدام آخر الأوراق الاستراتيجية التي تملكها. كما ان التشدّق بضرورة سيطرة الدولة يستلزم الانصياع لموجبات عناصر القوة في استراتيجيتها، لا ضربها وتفريغها من مضمون هذه القوة تحت شعار الصداقات والصدقات الدولية "وقوة لبنان في ضعفه".

إن الحوار يبدأ من ثوابت القوة لتحصينها، لا من الحوار على ثوابت القوة لتدميرها.
  

السابق
طلب نقودا.. فتلقى فأرا !!
التالي
مضيق هرمز.. والحرب