غياب المؤرخين عن التاريخ الشفاهي

لا يمكن أن ننكر أهمية التاريخ الشفاهي في كل عصر، وعلى الرغم من تباين آراء المؤرخين إزاء الحقائق التاريخية المتحصلة من خلاله وصدقية تداولها، إلا أن هذا النوع من التاريخ يظل هاجساً يلاحق المؤرخين بفعل وسائل الاتصال المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي وتطورها بصورة لا يمكن للتاريخ المدون مسايرة سرعتها وذيوع حقائقها.
وغياب المؤرخين المتخصصين عن مواكبة ما طرأ في مجال هذا التواصل الاجتماعي، يعرض التاريخ المعاصر إلى نكبات لا يمكن تعويضها في المستقبل، ذلك أن التاريخ المعاصر شأنه شـأن العصور الأخرى يعتمد ضمن مصادره الأصيلة على الرواية الشفاهية، بل يزيد عن البقية بحكم تعاطيه القريب من الحدث.
والملاحظ على المقابلات – وهي احدى وسائط التاريخ الشفاهي – في البرامج الاعلامية والحوارية، واللقاءات الصحفية، غياب المؤرخين المتخصصين، فالمقابل لا يعرف تفاصيل الأحداث ولا سياقاتها التاريخية، الأمر الذي يؤدي في نهايته إلى تشويه الحقيقة من خلال ترك العنان للشاهد، بحيث يصبح كلامه واقعاً حتمياً لا يمكن دفع حقائقه أمام المشاهدين والقراء غير المتخصصين، في حين لو حضر المؤرخ المتخصص كمقابل، لأثمر ذلك إيضاح حقائق تاريخية جديدة، ولوضعت المعلومة التاريخية في سياقها الصحيح.
واليوم أضحت مواقع التواصل الاجتماعي هي الأخرى مصدراً مهماً للتاريخ الشفاهي، لذا وجب على المتخصصين من مؤرخي العصر النزول إلى تلك المواقع، مواكبة لسرعة تنـاول الحدث، ثم لتأصيل صحة الأحداث وتفنيد الأخطاء التي يقع فيها كثير من المنتمين لمواقع التواصل الاجتماعي.
إن مجال تزييف التاريخ اليوم أصبحت أبوابه مشرعة لأسباب جوهرية يقف إهمال التعاطي من أراشيف الوثائق في مقدمتها، ثم غياب المؤرخين من المعاصرين عن ساحات تداول التاريخ، وخاصة الشفاهي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وترك المجال للمتسلقين من غير المتخصصين الذين تعرضوا للتاريخ وفق رؤى ضيقة ناجمة عن قصور في المنهج التاريخي الرصين، فضلاً عن قلة البضاعة.
إن التاريخ كما يقول ابن خلدون: «وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق»، انتهى كلامه. (ابن خلدون، تاريخه، طبع دار الكتب العلمية، بيروت 1992، مج 1، ص 4)، لذا وجب أن يكون التناول للتاريخ من قبل المؤرخين المتخصصين الذين خبروا مصادر كل عصر من عصوره وطبيعته، ولا يكون نهبــة للطامحين، ممن حكموا أنفسهم في سرد أحداثه وفق وجهة نظر واحدة من دون التفات إلى المصادر الأخرى لكل عصر.  

السابق
الفخ الذي نصب لوزير الدفاع اللبناني!
التالي
يقظة هناك وسكرة «سياسية» هنا