ما هي أسس فلسفة بري السياسية؟

لا ريب في ان رئيس مجلس النواب نبيه بري هو اكثر المهللين لاصدار مجلس الوزراء المراسيم التطبيقية لقانون النفط، اذ لم يعد خافيا انه كان للرجل "قصب السبق" في ابراز اهمية الثروة النفطية التي ستتوافر للبنان اذا ما احسنت الحكومة التقاط الفرصة وشرعت في التعامل بجدية مع الموضوع، والنأي به عن النزاعات والسجالات السياسية الحاصلة.
ولم يعد خافيا ان بري كان يرفع عقيرته محذرا في كل مرة تستغرق النخبة السياسية الحاكمة، وتلك التي في المعارضة والاعتراض، في التجاذبات، داعيا الى عدم اهمال القضية وابقائها حية سواء في الداخل او في المحافل الدولية لكي لا يضيع الحق اللبناني في الطاقة، تحت جنح الانقسامات اللبنانية.

والذين واكبوا عن كثب رحلة بري السياسية بعد عام 1984، اي لحظة وصوله للمرة الاولى الى دست الوزارة، يعون كيف انه خاض غمار مغامرة كبرى لكي ينفذ مشاريع مياه في الجنوب، كان ابرزها مشروع مياه عين وادي جيلو (قضاء صور) الذي تحول من حلم بدا احيانا بعيد المنال، الى مشروع حقيقي منع العطش عن اكثر من 50 بلدة جنوبية. ويذكر بعض المواكبين لهذا المشروع امارات الفرح التي ارتسمت على وجه بري حينذاك، وهو يصغي باهتمام الى شرح المهندس الارمني المسن (توفي بعد سنوات قليلة) عن حجم البحيرة الجوفية المتكونة بفعل قرون وقرون بالقرب من بلدة وادي جيلو الصغيرة جدا، والتي تصل حدودها الى الجليل الفلسطيني المحتل، وتشد يده على ضرورة الافادة منها قبل ان تضع اسرائيل يدها عليها بفعل "البلطجة" المحمية امميا او بفعل القانون الدولي.وعليه، فإن بري، يعتبر ما تحقق اول من امس في مجلس الوزراء انجازا ثانيا يعادل الانجاز الاول، بانتظار الانجاز الثالث الذي يحلم به، وهو مشروع الليطاني التاريخي الذي يفترض اذا ما اخذ طريقه نحو التنفيذ ان تبلغ مياهه مرتفعات جبل عامل التي قتلها تاريخيا العطش والماء وتحت اقدامها ينساب نحو البحر.
إذاً بالنسبة الى بري انجاز اول واعد ومبشر تحقق في غرة السنة الجديدة، ولكن السؤال المطروح هل ان رئيس المجلس الذي لا يضيع البوصلة وسط العواصف والانواء السياسية ويبقى مبشرا بخطط انماء وتنمية عملية ومصرا عليها، على يقين من ان رياح التطورات والتحولات في الداخل والمحيط ستسمح له بالمضي قدما في حالة "الفرح" التي انتابته لحظة اقرار المراسيم، وبالتالي رؤية الثمار العملية لهذا المشروع الطموح؟
المحيطون بالرئيس بري يتحدثون عن قراءة جلية للاحداث وتداعياتها حاضرا ومستقبلا، مختلفة في الكثير من مناحيها وخطوطها العريضة، بحيث تجعله مطمئنا الى ان المعادلة السياسية الحالية تكاد تكون عصية على التغيير.

فبري، وبحسب هؤلاء انفسهم، لا يخفي رغبته العارمة في الدفاع عن الحكومة الميقاتية، ولا يضيره اطلاقا ان يطلق عليه الرئيس نجيب ميقاتي لقب "كاسحة الالغام" امام الحكومة، فهو لا يخفي انه كان القابلة التي ولدت على يده هذه الحكومة لحظة تعثر ولادتها، وبالتحديد عندما تنازل طوعا عن حصته المضمونة في مقعد وزاري واعطائه عن طيبة خاطر لممثل المعارضة السنية (يومذاك) كاسرا عرفا اوشك ان يكون راسخا في لعبة تشكيل الحكومات في لبنان وتوزيع الحصص الوزارية، ومتجاوزا قاعدة كانت دوما ثابتة بالنسبة اليه، وهي الحصول على حصته الوزارية كاملة ايا تكن الظروف.
وليس خافيا ان بري هو من فكك لغم تمويل المحكمة الدولية باجتراحه فكرة التمويل عبر مسارب اخرى غير مجلس الوزراء، ليصطنع بذلك تسوية ما خطرت في عقل يوما، ويفرضها واقعا على حليفه "حزب الله" وعلى الآخرين، على رغم ان رأس الحزب ظهر لاحقا وهو يعرب عن عدم رضاه الضمني عنها.

وبري نفسه، كان ايضا محور الحركة السياسية التي حصلت اخيرا واعادت تهدئة الخواطر في داخل التحالف الثلاثي، خصوصا بعدما اجتمع مساعدو واقطاب هذا التحالف ووضعوا آلية للتنسيق الحكومي وغير الحكومي لاحقا.
المهم لبري ان تستمر الحكومة الحالية والا تتعثر حتى لو اضطرت الظروف ان تكون لها قوائم من قصب. ولرئيس المجلس فلسفته الخاصة العميقة لاستمساكه الشرس بعروة الحكومة وتحصينها من اية تأثيرات او تداعيات داخلية وخارجية، ورفدها رئيسها في الساعات الصعبة بحوافز دعم معنوية، تشجعه على الاقدام وليس الاحجام، حتى ان الاخير (اي ميقاتي) صار يقصد عين التينة المجاورة لمقر اقامته لحظة يستشعر تعقيدا، او يرصد تعثرا.
لذا وللحفاظ على هذا الرصيد الضخم المضمون، لا تهاون في موضوع الحكومة، ولا تردد في الحفاظ عليها حتى بأهداب العيون، لأن خلاف ذلك في وضع مثل الوضع اللبناني معناه الخسران المبين، في قراءة بري العميقة للامور. لذا فإن المهمة الاساس في السنة التي بدأت لتوها تنفق ايامها، هي المحافظة على الحكومة، وتحصينها من رياح سموم يمكن ان تهب عليها سواء من الداخل او من الخارج.

والفلسفة اياها بالنسبة الى رئيس المجلس تسمح بالذهاب الى ابعد من مسألة الرهان على ابقاء الحكومة الحالية وتزويدها الدفاعات الواقية والحاضنة، ففي رأيه ان ثمة مهمتين اساسيتين لهذه الحكومة بالذات، لا يمكن انجازهما اصلا من دونها. الاولى الامساك بالثروة النفطية الواعدة للبنان، والتي بدأت رحلة الوصول اليها من خلال اقرارها المراسيم التطبيقية، وبالتالي عدم تضييع الفرصة السانحة الان لضمان الحصول عليها، والتي قد يأتي حين من الدهر ولا تتكرر.
الثانية: ان ثمة مؤشرات وان بعيدة بدأت تلوح في الافق توحي وكأن ثمة بحثا جديا عن سبل لانهاء الصراع العربي – الاسرائيلي تحت مظلة التسوية الشاملة، وخصوصا ان اي مراقب بامكانه ان يشعر بالمخاوف حيال ما حصل اخيرا على صعيد القضية الفلسطينية وطاول احد فصائلها الذي كان دوما يدرج في خانة قوى الممانعة والمقاومة.

وبصرف النظر عن شرعية هذه المخاوف، والتوجسات التي ما كانت لتحصل لولا ما تتعرض له سوريا من مؤامرات، فإن اي مسؤول لبناني لا بد ان يفكر في انعكاسات وتداعيات مثل هذه المساعي ومثل هذه التحولات على لبنان، وبالتالي يجعله يتمسك اكثر بالحكومة وببقائها ومنع كل المحاولات لتهديم اركانها وجعلها تتداعى، لان في وجودها ضمانة اساسية وضرورية لحقوق لبنان، وفي غيابها انفلات لمشاعر الخوف والخشية من ان يكون هذا البلد احد ابرز الضحايا، فالحكومة في هذه الحالة حضانة وحصانة وغيابها ينطوي على مخاوف حقيقية من ان يكون الجسد اللبناني بحاجة لامرار ما كان الكثيرون يتخيلون انه لا يمكن ان يمر.
وبناء على كل تلك المعطيات، فإن بري الحاضر مستقبلا كما في السابق ليكون درعا في وجه اي محاولات لاسقاط الحكومة، يرى وفق ما ينقل عنه ان ثمة رهانات اساسية يمكن الاتكاء عليها وهي ان كل رهانات المراهنين على امكان اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد قد اخفقت بالكامل، وظهر ان هذا النظام اقوى من حسابات الكثيرين. اضافة الى ان ثمة اطمئنان لدى بري من ان الركن الرابع للحكومة اي النائب وليد جنبلاط هو من الدراية والحنكة بما يجعله لا يغامر بمغادرة الحكومة الحالية.  

السابق
أسيران محرران لحماس في البصّ
التالي
استئصال ورم وزنه 90 كيلوغراماً من ساق فيتنامي