القاعدة..سجال الواقع

السجال الذي اندلع على خلفية وجود تنظيم "القاعدة" في لبنان، والخلاف على اعتبار هذا البلد (ممراً أومقراً) لهذه الجماعة، التي تتحضر للانقضاض على المنطقة، ودائماً عبر البوابة الأميركية، بعدما صنّعتها في أفغانستان لمحاربة الاحتلال السوفياتي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، وكأنه سجال هامشي من سجالات الأطراف اللبنانية. فالأجواء المحيطة في اكثر من دولة عربية شهدت انقلابات على الأنظمة، وصولاً الى المحاولة المستمرة في سورية ما يفرض النظر مليا الى امكانية أن تتحرك "القاعدة" في لبنان انطلاقا من منظومة تحرك "إسلامي" مدعوم غربياً، كجزء من خطة إعادة السيطرة على المنطقة أميركياً، بعدما فقدت بلاد "العم سام" الكثير من أرصدتها، طيلة الأعوام الماضية.
لقد باتت الولايات المتحدة الأميركية ترى المنطقة بعين "أسلمتها" بعدما عجزت عن صد هذا المد ومحاربته بشراسة من أفغانستان ودول آسيا الوسطى، وصولاً الى ما نجم عن الإنقلابات في العالم العربي، التي استطاع فيها "الإسلاميون" فرض أنفسهم على ساحة العمل السياسي و"الثوري"، وهذا ما أدرجته واشنطن في صيغة استجابتها لمتطلبات "الديمقراطية"، و"اقتنعت" ومن ثم "وافقت" بعد عقود من الحروب العلنية والخفية مع "الإسلاميين" و"الراديكاليين"، على مشاركة هؤلاء في حكم البلاد التي ينتمون اليها، ولكن بشرط تأمين المصالح الأميركية كافة ومن ضمنها "الإسرائيلية" التي لا يمكن فصلها عنها أبداً.

يقودنا هذا الكلام الى ما يطرح حول تحرك "القاعدة" كتنظيم "جهادي" اسلامي في لبنان، ومدى تأثره بالأحداث الجارية في المنطقة، لاسيما في سورية وبالتالي لبنان المتأئر بما يجري في جارته الأقرب سلباً أو ايجابا، ليُسجل عدة ملاحظات منها أن المعلومات المتوفرة تؤكد وجود تحركات لجماعات إسلامية متطرفة تعمل في أكثر من منطقة لبنانية وعلى مرأى من جميع الناس، ومن تلك المناطق صيدا في الجنوب، وطرابلس وغيرها في الشمال، الى مناطق عديدة في البقاعين الشمالي والأوسط.
ومن الملاحظات أيضاً، أن الدولة غائبة بشكل فعلي عن ملاحقة تلك الجماعات، أو حتى تحديد نشاطها بشكل دقيق، في حين أن الأطراف السياسية الفاعلة على الأرض يكتفي قسم منها بمراقبة ومتابعة تحرك تلك الجماعات، بينما يعمل قسم آخر على تغطيتها، إما مباشرة من خلال تأمين مساحات ومستلزمات عملها، أو بإنكار وجودها. وهو ما دأب عليه أكثر من طرف لبناني في الآونة الأخيرة، حماية لها وإفساحاً في المجال أمامها من أجل المساعدة على تحقيق هدفين:
الأول: داخلي يتمثّل بإرباك الحكومة غير المرضي عنها من قبل المعارضة الحالية، والتي لا تملك مساحات للتحرك بالأصالة عن نفسها، في ظل الظروف الراهنة على الساحة اللبنانية، بعد انكفائها نتيجة فشلها في التعاطي مع الأحداث والملفات المطروحة من جهة، ولأن تحركها إذا ما أقدمت عليه، قد يورّطها في ما لا تستطيع تحمله من أعباء سياسية وأمنية، من جهة أخرى.

ثانياً: خارجي ويتمثل باستهداف سورية في معركتها مع الجماعات المسلحة التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بجماعات أصولية متطرّفة، وهي تعمل على ذلك منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأحداث في سورية في شباط – آذار من العام الماضي، والتي دلّت أفعالها على أنها تسعى الى استغلال التنوع المذهبي والطائفي في تلك البلاد، والنقر بقوة على وتر التمييز والحقوق ضمن عناوين مذهبية واضحة، لاستمالة بعض التدخل من ذوي النفوس المريضة في سورية، وأخرى من الخارج، تكون منسجمة معه في ما يسوقه من أفكار تتماشى مع السياق العام الذي يتم العمل عليه في أكثر من مكان في المنطقة، ومن ضمنها لبنان، الذي بات ساحة "جهاد" وليس فقط "نصرة" بعدما أصبح ذلك "الجهاد" بالتحديد أحد وجوه "الديمقراطية" الأميركية، التي نظّرت لها مراكز الدراسات في الولايات المتحدة، ويعمل الدبلوماسي المخضرم ونائب رئيس ومدير السياسات الخارجية في معهد بروكينز للدراسات الاسترتيجية مارتن انديك على تسويقها لدى الإدارة الأميركية وبعض الأنظمة العربية، التي بدأت بدورها ترى أن هناك إمكانية للمصالحة مع تلك الجماعات، التي من الممكن أن توفّر لها بعض الاستقرار في مواجهة "الأعداء"، من الجيران الأقربين والأبعدين.

ما قاله وزير الدفاع اللبناني حول تحركات تنظيم "القاعدة" لا يبعد عن هذه "الفلسفة" الأميركية في النّظر الى وضع المنطقة، على ضوء التغييرات التي تجري فيها، وهي تحاول مواكبتها لاستيعابها. في وقت تبقى فيه الساحة اللبنانية أسيرة سجالات الهدف منها تأمين الحماية لتلك الجماعات، وحرف الأنظار عنها، حتى تستطيع استكمال عملها. والفلسفة الأميركية ومعها الأوروبية تعرفان جيدا أن لا خطر تشكله "القاعدة" في لبنان والتنظيمات الأخرى المرتبطة بها، أو المتفرّعة عنها على قوات (اليونيفيل) العاملة في لبنان، لأنها اساسا موجودة في منطقة آمنة، وما يحدث لها لا يعدو كونه خروقات أمنية محدودة، عدا عن أن العمليات التي تستهدف (ايساف) في أفغانستان، لم تخرج عن إطار الحوادث المتفرقة، وإلا فلتُسأل دولة قطر عما تفعله "طالبان" مؤسِسة "القاعدة" في الدوحة، وآخر ما قيل عنها أنها وقعت اتفاقا من نظام حمد على فتح مكتب لها في بلاده.
يجب أن تبادر الدولة اللبنانية الى أخذ دورها كاملاً في ملاحقة تلك الجماعات، مهما كانت تسميتها ومن الذي يغطّيها، قبل استفحال الأمور، في حين أن كل أجهزتها الأمنية لديها معلومات شبه مفصلة عنها.
  

السابق
متضرري تموز ؟
التالي
هل فجرت اسرائيل الطائرة الاثيوبية في بيروت؟ أو…