كهرباء أبو عبّاس

ضغطَت زرّ النور. أبقت إصبعها عليه حتى تحجّر طرفه من الوجع. إنها تتلمّس الواقع، إذ قلما يؤلمنا الوهم. يغمر نور ساطع أرجاء الغرفة. هذه الحجرة ليست خيالاً. تغمض عينيها تلقائياً، تخاف أن يصيبها سطوعه بالعمى. تشعر بارتياح من استيقظ من كابوس. تغمرها الألفة، ففي الظلمة غابة من العري الموحش، وحده النور هو الذي يؤثث المكان.

مسحورة هي مساكن الطلاب في الجامعة اللبنانية في الحدث، حيث يمكن أن تشعل المصباح حين تريد، وتدير البرّاد ومكيّف الهواء طوال اليوم، وتشغل المايكـرويف ساعة تشاء. يلوح تعبير محير على وجهها، إذ تتذكر ما قاله صديقها الذي يعمل في السعودية في حنين ساخر وشبه تذمر من رتابة أيامه المرفهة: أتمنى لو تنقطع الكهرباء هنا دقيقة واحدة حتى أشعر أنني في وطني لبنان! راودها سؤال من دون أن تجرؤ على صياغته: «هل هي في هذه «الأوقات المضيئة» تعيش في الغربة من دون أن تدري؟».
تغرق للحظات في تلك الحالة المجردة والطوباوية، وهي تحقق رغبتها في القطيعة التامة مع المألوف الذي جعل الكهرباء في منطقتها الجنوبية «غير النائية» تفاحة الجنة المشتهاة والبعيدة في آن، مع أنها تغدق على نواب الأمة أصواتها، ومع أن أبناءها يقطعون الطرقات بالإطارات المشتعلة احتجاجاً على انقطاع التيار، فيما معظمهم يقوم بسرقته متسلحاً بفتوى شرعية حلّلت سرقة الدولة، وأخرى سياسية هدفها تصعيب المهمة على الفريق الذي يمسك بملف الكهرباء.

السادسة صباحاً، العاشرة، الثانية ظهراً، ثم السادسة مساء ويأتي منتصف الليل، هي الأوقات التي يجري فيها قطع الكهرباء أو إمداد السكان بها. تحوّلت هذه المواعيد إلى بندول يتراقص بين لانهائيتين من الظلام، برشاقة لا مثيل لها، مستنفداً في حركته المتمادية كل وقت البشر الذين ما عدنا منهم، كأنه رقاص ساعة جهنمية مثبتة بنقطة محورية شغلها الأوحد أن تشلنا تاركة لنا ثقباً حقيراً لكفاف تنفسنا.كان التقنين القاسي يرضينا بلذة الرغد: 4 ساعات من التعذية لنا و4 ساعات علينا، وإن كنا نتقاسم مع ظلاّمنا حتى حصتنا الصغيرة. لم نعد نستنكر أن يتحكموا بتوقيت نشاطنا لإحساس غير معلن فينا، أنها مجرد حلقة من نظام شامل يقوم على تطويع الضحايا ليتحولوا إلى حرّاس أمناء له، ويهيئ الجو المثالي للقـبول بالعتم وبغيره «رؤساء إلى الأبد». لكن الآن وحتى بعــد إعلان وزير الطاقة جبران باسيل خطته العجيــبة ليرجـع لبنان «منور 24/24» في الأونيسكو حيث انقطعت الكهرباء خلال مؤتمره الصحافي 3 مرات و«بالصدفة»، وبعد كل المعارك التي انتهت بتخصيص اعتماد بمليارات الليرات للغاية نفسها، وبعد أن تم تجاوز مشكلة معمل الزهراني، لم تعد الكهرباء متوافرة لأكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً، وبشكل متقطع ليس أقل منه إلا الحرمان التام.

ها قد أتت الكهرباء، لكن النور خافت، كأنه نبض خادع في عروق جثة، بالكاد 110 فولت. أي أدوات كهربائية ستنجو من هذا المجيء المباغت الصاعق؟ تسمع والدها ينزل مقبض الكهرباء الرئيسي بسرعة، فيُسمع لحركته صوت كأنه صفعة كف ثقيلة على الأذن، يترــدد الطنين من جديد وهو يسحب موصل الكهرباء الخاص بالتـلفاز ثم بالبراد، فالبطاريات، فتسقط شرائطها أرضاً كـما لو أنها أجساد في إعدام جماعي. كان الوضع أفضل حتى خلال الأيام الأولى من حرب تموز، حين كان تنفسنا محسوباً لا يصدر له صوت، ونور الشمــعة سمــير الليالي المرعبة بضوئه القديم إلى حد أن رائحة العفن تفوح منه.

تتذكر كيف فسر لها جدها عبارة «ولا دومري بالشارع» موضحاُ أن الدومري هو من كان يشعل الأضواء في الشوارع أيام العثمانيين. أما دومري اليوم فهو «أبو عباس». «قطعها أبو عباس / جابها أبو عباس»، هكذا اعتادوا عندهم في البيت أن يكسروا الإيقاع الواقعي للألم المنتظم. لا بد من أحد يتلقى الشتائم، ولذلك صار «أبو عباس» أشبه بشخص ينبغي أن يكون موجوداً، شبح جلاد، ظل جزمة، صوتاً مسجلاً يلقي بمزاجية الأوامر بحرماننا من الضوء. يرونه في كوابيسهم المظلمة بأنياب وحش وعين حمراء في منتصف الجبهة، مستلقياً على كرسيه دافعاً بحذائه العسكري في وجوههم وفي يده ولاعة يلهو بها «أون/ اوف». عندما يتوافر التيار لمدة ربع ساعة من دون انقطاع تحتل بسمة ظفر جانب شفاهنا علامة انتصارنا التافه. أما حين لا ينقطع في الوقت المعتاد نفـترض أن «أبو عباس» مريض. نفقد ثقتنا بعاداتنا، شيء ما ينكسر فينا، كأعمى لم يعد يثق بحدسه. ثم نروح نسخر منه كمن يدخن بشراهة متزايدة هازاً سبابته في وجه الموت: «أنت قادم لا محالة لكنني لا أخافك، فأنت مجرد نكتة تبهت بالتكرار!».

بعد أن كان «أبو عباس» خيالاً تجسد في صــورة كائن له وظيفة أجهزة المخابرات: إرهاب الـناس. أصــبح شيئاً لا يمكن وصفه بالحدث لتجرده من عنصر الفرادة، ولا بالحادثة لأنه مصير ملموس غير مشـكوك بحلـوله، ننتظره بالاحتياطــات وبالفواتــير الرديفــة التي تتعدى قيمتها نصف الحد الأدنى للأجور، ليصير في النهاية حالاً تسد الطـريق إلى عيش آمن وإنـسانيّ بسيط.

هاتفها المحمول لفظ شحنة أنفاسه الأخيرة، واللابتوب كذلك، فكيف تنتظر رسالتك الناقصة الشــوق ونقرتك على شباكها الافتراضي؟ تفزع حين تلاحظ أنها أُخرجت من العصر الرقمي الذي تؤدى فيه كل وظائف القلب والعقل بنقرة واحدة من أي جهاز محمول يعمل باللمس الرقيق. شاهدت فيلماً روسياً يحمل عنوان «نهــاية العالم» يتصور الفوضى التي من الممكن أن تحدث في حال انقطع التيار عن موسكو: سيدة أعمال تتلقى خلال عقدها صفقة العمر اتصالاً من مركز التلقيح الاصطناعي لكي تحضر على عجل لتغرس البويضة في رحمــها وإلا فسدت. حبيبان على وشك الزواج يعلقان في المصعد، وأثناء تلك الخلوة تعترف الفتاة لخطيبـها بأنها على علاقة بوالده. يصور الفيلم أن انقطاع الكهرباء يقترن بأكثر المواقف غرائبية. لو يعلم أنه في لبناننا مجرد محاكاة لمشهد تقليدي. يظن المخـرج أن في معانــاة أبطاله سوريالية تنزل من عليائها لتتجسد في مشاهد واقعية بدت لامعقوليتها متجاوزة أي فانتازيا، بينما هي تتناسل كل لحظة على سطح حياتنا اليومية بسرعة البعوض.

استيقظَت في الصباح. نظرت في المرآة، فلم تجــد عينيها. لم تصرخ ولم تهلع، لم تكن في حاجـة ماسة إليهما طالما أن الظلام مستـمر. أحست بفارق بســيط فقط، عليها أن تستغني عن خدمات قلم الكحــل! تذكرت أنها أبصرت شيئاً، ربما أقنعت نفسها بهذا الوهم، النور درب نقف من فترة لأخرى فيها لتسأل نفسها: هل أكمل المسير؟  

السابق
خبراء القاعدة
التالي
المأكولات التي تساعدك على مقاومة التدخين!