إلى رجال الدين في سوريا

يبدو غريباً للوهلة الأولى أن يستشهد راهبٌ بملحدٍ شرسٍ كنيتشه أمضى حياته يعارك ظلال الفكر الديني وتحوّلاته. والأغرب من ذلك أن هذا الاستشهاد يأتي في إطار الثورة السورية، ونيتشه كما هو شائع لا يؤمن بالديمقراطية، لا بل يعتبر الفعل الثوري انحطاطاً!

في حقيقة الأمر، لا يهدف هذا المقال إلى استلهام نقد نيتشه المعقد للديمقراطية، بل يكتفي بعرض شذراتٍ من نقده لرجال الدين وتأوينها، علّها توقظنا من غيبوبةٍ طال انبساطها. يتمحور نقد نيتشه لرجال الدين على موضوع الخوف: إنهم مشلولون أمام غرابة العالم، فنراهم يلصقون على غموض الواقع معانيَ، في واقع الأمر لا معنىً لها. هم لا يستطيعون أن يروا العالم يفلت من أيديهم، فيؤولونه على هواهم بما يتناسب مع حاجاتهم. فهذا إمامٌ، على سبيل المثال، في دمشق، يتبختر في عوالم الغيب ليؤكد لنا أن الله، عز وجل، اختار النظام السوري: أحبه ودعمه وأفاضه نعمةً علينا! يا للعجب!!! لو رآه نيتشه اليوم لقال فيه: «إنه يدّعي يقين الماورائيات للهروب من مواجهة الواقع، فيصير الدين جُبناً والتسبيح «تشبيحاً»». شيخنا هذا، وأمثاله كثر، لا يريد أن يحدثنا عن أسباب معاناتنا في سوريا، وعن الظلم الذي ينهش عظامنا منذ عقود، بل يؤكد لنا، من جهةٍ أولى، أن عالم الغيب الإلهي يريد عبوديةً كساها شيخنا بأقمشة الوطنية، ليُحمّل، من جهةٍ أخرى، عالم الغيب الأرضي مسؤولية مأساتنا: إنهم «العصابات المسلحة» و«الغرب البغيض»! لكن، لمَ يقول ذلك؟ قد يقول قائلٌ إنه التقاء المصالح أو الخوف من سياط الجلاد، وهذا صحيح! لكن نيتشه يعطينا جواباً أعمق: إنه يخاف من الحرية! لمَ؟ لأنه لا يقدر أن يكون خلّاقاً، فيفضل قتامة الحاضر على مغامرة المستقبل وما يحمله من مجهول. ينسف رجال الدين بخوفهم من الحرية هذا صيرورة العالم، بحسب نيتشه، عندما يسجنون الواقع في قفص الاستقرار لتجنب رياح التغيير، «فسوريا بخير» يقول كثيرون… يترسخ هذا الاستقرار الزائف، المناقض لحركية الوعي المتولدة من رحم الحياة، من خلال ادعاء رجال الدين امتلاك مفاتيح المعاني وأسرار الخلاص، فيتحكمون في رقاب العباد الرازحين تحت أثقال الوجود، ويبشرونهم بآخرة سعيدة تلغي مخاطر المستقبل إن أطاعوا. هكذا يطالِب رجال الدين البشرَ عند نيتشه، وأقولها من دون أن أتبنى تعميمه، بطمر وجوههم في رمال العالم السماوي، فالله هو «حامي سوريا» والمدافع عنها… «قولوا إذاً «لا» للواقع، لأنه يهددنا! ما معنى أن يدّعي أسقف مثلاً بأن النظام القائم هو الأنسب لمسيحيي سوريا، إلا تخييرنا بين الوضع الراهن والفناء؟ وما معنى أن يضرب كاهنٌ بعرض الحائط كل التقارير عن مأساة الحالة الإنسانية في سوريا، ليعتبر الحراك الذي انبعث من صراخ صبيةٍ مسجونين في أقبية مخابرات درعا مؤامرة، إلا دعوتنا إلى انكار الواقع والتاريخ؟ «صدقوهم» يقولون؛ «صدقوا الإعلام الذي اتهم حمزة الخطيب بنية اغتصاب النساء، وقلَب مظاهرة الميدان الدمشقية أفراحاً شعبية بهطول المطر، والأحداث المؤسفة في قرية البيضا هجوماً للبشمركة في شمال العراق، واستخدم «الكومبارسية» نفسهم في أكثر من مقابلة مزوّرة، وعرض أفلاماً مصوّرة في لبنان ليقول إنها في سوريا»، واللائحة تطول… «صدقوهم، صدقوهم! فالحرية دسيسة، والحياة مكيدة، والخنوع للحاضر المدمر جنة يقال فيها: «عيشوا عبيداً حتى تكونوا!»» هذا ما يقوله رجال الدين عند نيتشه، وهذا ما يقوله كثيرٌ من رجال الدين في سوريا…
نقد نيتشه القاسي هذا لا يمكن أن يعمَّم، ففي سوريا أيضاً رجال دين تجرؤوا على مواجهة الواقع وتحملوا أعباء ذلك من ضرب وتضـييقٍ وإهانات. فمن الشيخ كريم راجح إلى رهبانــية ابراهيم الخليل وغيرهم، وقف رجالٌ ونساءٌ قرروا خوض مغامرة الحياة رغبةً في الحرية. لكن خوض هذه المغامرة لا يمكن أن يتوقف على فضح الظلم، بل تترتب عليه مهمتان شاقتان لا بد منهما إن أردنا أن يُزهر:

أولاً، تغيير نوعية ارتباطنا بالحقيقة. يأخذ نيتشه على رجال الدين في نقده السابق ادّعاءهم امتلاك الحقيقة، فأجوبتهم جاهزة وأسئلتهم مراوِغة. إنهم لا يبحثون عن الحقيقة لأنهم لا يرغبون فيها بل يحتاجون إلى استحواذها كي يعيشوا آمنين! هكذا، تتشوه «الحقيقة» لتصبح مجرد تكييفٍ للعالم بما يتناسب مع مفهومنا عنه؛ هكذا تنقلب «الحقيقة» من حياةٍ في ضيافة الواقع إلى حالةٍ دفاعية قائمة على نبذ كل شخصٍ أو فكرة يهددان استقرار عالمنا المألوف وعاداتنا. من هذا المنظار، يتحول الدين بحسب نيتشه إلى مصدرٍ للعنف، ولا يبخل التاريخ علينا بأمثلة بيّنة تحوّل فيها التدين إلى إقصاءٍ للآخر تحت اسم المطلق. قد يعادي الدين الحياة عندما يدّعي أنصاره امتلاك الحقيقة، وبالتالي لا يكتفي تأوينُ بعضٍ من نيتشه اليوم بمطالبة رجال الدين بالكف عن الهروب من الواقع، بل يستقضيهم بأن يكونوا دعاة واقعٍ جديد لا تتحكم فيه بارانويا الأقليات على الشعوب من جهةٍ أولى، ولا يكون فيه الدين مصدراً تشريعياً من جهةٍ أخرى، بل نهجاً إنسانياً قبل كل شيء.

ثانياً، العمل على المصالحة الوطنية. جلُّ ما يميز روحانية العبيد عند نيتشه هو الحقد، فقلوبهم تأكلها المرارة من أسيادهم، ونفوسهم تجترّ كرهاً لا ينطفئ إلا بالانتقام… يغذّي رجال الدين بحسب نيتشه هذا الحقد لأنهم يبغضون مغامرة الحياة، فمَن يبغض الحياة لا يمكن أن يحب، وإن غفر فليس إلا من باب التشفي: «أسامحك لأقول لك إنني أفضل منك! أسامحك لأنني أحقد عليك!» ما يميز روحانية العبيد هنا هو انحباسهم في منطق رد الفعل. أشير إلى ذلك لأننا شاهدنا جميعاً كيف أفرغ بعضٌ من «أحرار» ليبيا حممهم على من أسرفوا في القتل، فأذلوهم وقتلوهم من دون محاكمة… لا يمكن هؤلاء أن يكونوا من مريدي الحرية بحسب نيتشه، لأنهم ارتهنوا إلى مرارة الماضي، فأذابوا المستقبل في أنين الجراح. في سوريا أيضاً نظامٌ يتاجر بأرواحنا وشبابٌ يساق إلى العنف، وكم أخشى أن ينقلب غضب الشارع المصلوب يوماً انتقاماً أرعن ينسف وطناً طال انتظاره. وهنا قد يبرز مجدّداً ما يمكن أن يكون دوراً منتظراً لرجال الدين في بناء جسورٍ جديدة بين الناس قد تسمح للعدالة بأن تأخذ مجراها من دون أن تتحول إلى انتقام، شرط أن يستطيع رجال الدين أولاً مواجهة مخاوفهم من الواقع، ومن الحياة والحرية…
لكن، هل من مجيب؟
 

السابق
اقتصاد التضامن..طرح إسلامي لكسب المصداقية؟
التالي
تمام سلام: لا يمكن أن نقبل بأن يكون للدين أو للشريعة فرضها على الناس