مصر…البحث مستمرّ عن نظام!

الذين يزورون مصر هذه الايام، يعودون بانطباع فحواه انه سيمرّ وقت طويل قبل أن يكون هناك نظام جديد في البلد العربي الأكبر، أو على الأصحّ قبل ان نعرف طبيعة هذا النظام الجديد. مصر دخلت في المجهول. ليس لدى شبابها الذي كان وراء الثورة القدرة على ترجمة طموحاته على أرض الواقع، أي اقامة دولة عصرية ذات مؤسسات ديموقراطية، دولة قادرة على ان تكون منفتحة على العالم دون عقد. هناك انقسام عمودي في مصر. للمرّة الاولى لا حديث سوى عن حزب العسكر من جهة وعن الإسلاميين من جهة أخرى.

دخل الشباب المصري الثورة في وقت لم يكن هناك من يتجرأ على تحدي النظام المصري، باستثناء قليلين جدّا مثل الدكتور سعد الدين ابراهيم أو الزميل أيمن نور. حصلت الثورة ولكن ليس معروفا بعد هل انتهى النظام القائم منذ العام 1952؟ الأكيد انه انتهى. حتى لو بقي العسكر مسيطرين على جزء من السلطة، سيكون ذلك وفق صيغة جديدة لم تتبلور بعد. باختصار، لا تزال مصر تبحث عن هذه الصيغة الجديدة.
كان الرئيس السابق حسني مبارك يسيطر سيطرة تامة على مصر. لم يكن يتصور حتى ان هناك من يستطيع الترشح ضدّه في الانتخابات الرئاسية. تجرأ أيمن نور يوما على ذلك، فوجد نفسه في السجن لأسباب واهية. كان سجن أيمن نور الدليل الاوّل على ان النظام ضعيف. قبل ذلك، كانت الحملة على سعد الدين ابراهيم، الذي انتهى بدوره في السجن، دليلا على هشاشة النظام وعقمه وفقدانه القدرة على تجديد نفسه. تبيّن ان حسني مبارك كان عنده مستشارون لديهم القدرة على قول الاشياء كما يجب ان تقال وليس الاكتفاء بالاشادة بحكمته وسعة اطلاعه وحنكته!

كيف كان ممكنا لحسني مبارك تجديد النظام في وقت لم يكن لديه متسع من الوقت للتفكير في انه لم يستطع سوى ان يرث ايجابيات عهد انور السادات من دون امتلاك ما يكفي من التواضع للاعتراف بذلك؟ لم يعترف حتى بأنّه لم يستطع صنع أي دور إقليمي لمصر باستثناء توفير غطاء عربي لاخراج صدّام حسين من الكويت على يد الاميركيين أوّلا. كان ذلك من الانجازات القليلة لمبارك على الصعيد الخارجي. الأكيد انّه لا يمكن إلّا الاعتراف بالدور الذي لعبه الرئيس المخلوع على هذا الصعيد. إلّا ان ما لا بدّ من الاعتراف به أيضا انه لم يستطع تطوير هذا الانجاز بأيّ شكل من الاشكال. في عهد مبارك، لم يعد لمصر دور في السودان الذي كان تاريخيا الحديقة الخلفية لها!
هزّ شباب مصر النظام. ولكن من أسقط النظام في يوم معيّن هو الثامن والعشرين من كانون الثاني- يناير 2011 هم الاسلاميون. شعر الاسلاميون، على رأسهم الاخوان المسلمون، بأنّ شيئا ما تغيّر في مصر نتيجة تحرّك الشباب المصري. انتهزوا الفرصة فوجهوا الضربة القاضية الى النظام مستهدفين يومذاك قوات الأمن المركزي. انهارت تلك القوّات التابعة أصلا لوزارة الداخلية، فصارت الرئاسة المصرية مكشوفة…

فجأة تغيّر المشهد المصري. جاء سقوط مبارك نتيجة تفاهم واضح بين الاسلاميين والجيش الذي رفض دعم الرئيس مبارك لسبب في غاية الوضوح يتمثل في ان المؤسسة العسكرية تعترض على التوريث.
بعد أقل من سنة على سقوط حسني مبارك ومثوله أمام المحكمة مع نجليه علاء وجمال، لا تزال مصر تبحث عن نظام جديد. خسر الشباب المصري المعركة، خصوصا ان هذا الشباب لم يكن يمتلك مشروعا سياسيا واضحا اضافة الى انّه لم يكن لديه تصور لما سيفعله في الانتخابات. جرت الانتخابات. انتصر فيها الاخوان المسلمون كما تبيّن ان السلفيين صاروا قوّة لا يمكن الاستهانة بها. لم يعد مكان في مصر لأيّ نوع من الليبيرالية. لم يستوعب الشباب المصري ان نتيجة سنوات طويلة من الرأسمالية المتوحشة سبقتها سنوات طويلة من الاشتراكية البائسة لم يكن يمكن ان تنتج سوى مجتمع مريض لا مكان فيه سوى لأشباه المتعلّمين. أشباه المتعلمين هؤلاء أقرب الى أشباه الأميين أكثر من اي شيء آخر في ضوء عدم قدرتهم على التمييز بين الواقع والشعارات الرنّانة اكانت ذات طابع ديني او دينوي…

تدفع مصر حاليا ثمن ستين عاما من القحط السياسي. ليس ما معروفا هل ستتمكن المؤسسة العسكرية من الاحتفاظ بجزء من السلطة. الشيء الوحيد الثابت ان المستقبل للاخوان المسلمين. ولكن هل لدى هؤلاء مشروع محدد يعالج المشاكل العميقة للبلد على رأسها مشكلة التعليم بمفهومها الحضاري وحسب المقاييس المعترف بها دوليا؟ هل هم على استعداد للتعايش مع المؤسسة العسكرية لفترة معيّنة، أم سيطلبون حلّ المجلس العسكري في المستقبل القريب؟ ربما الأهمّ من ذلك، ما هي درجة اختراق الإسلاميين للمجلس العسكري؟ ما هي درجة اختراق النظام الإيراني للإسلاميين، خصوصا للاخوان؟

عاجلا أم آجلا، سيتبيّن هل في امكان الاخوان التعايش مع المؤسسة العسكرية وهل في الامكان الطلب من العسكريين الانصراف إلى شؤونهم الخاصة والابتعاد عن السياسة؟ عاجلا أم آجلا سيتبين هل من بديل للمؤسسة العسكرية في مصر؟ وما إذا كان النظام الذي استمرّ منذ العام 1952 قابلاً لاستيلاد نظام آخر يمثّل النقيض التام له؟ في انتظار الاجابة عن مثل هذا النوع من الأسئلة ستظل مصر تبحث عن نظام جديد. قد يكون ذلك ممكنا كما قد يكون مجرّد سراب!

السابق
السياسة: الدفاع الأعلى يؤكد خلو لبنان من عناصر القاعدة
التالي
عام خطير مقبل بعد الربيع العربي