لن يحنّ النهر إلى صورة المستنقع

إذا كان للغة أن تحتفل نهاية كل عام بمصطلح من المصطلحات تتوجه على رأس العبارات الأكثر دلالة وحضوراً وسعة انتشار، كما يحدث بالنسبة لرجل العام أو امرأة العام، فإن مصطلح «الربيع العربي» سيقف دون منازع في ساحة المصطلحات الأكثر تداولاً خلال العام الذي انصرم. وقد لا يقتصر شيوع ذلك المصطلح على الرقعة العربية وحدها بل يتعداها إلى المساحة الكاملة لهذه الكرة، حيث وقف العالم ذاهلاً إزاء ملايين القبضات التي خرجت من قوقعتها وسباتها المزمنين لتطالب بالحرية بينما كان أصحابها يرزحون خانعين ولعقود طويلة تحت أكثر أنواع الدكتاتوريات العسكرية تخلفاً وفظاظة وتشبثاً بالسلطة.
لن يكون مهماً في نهاية هذه السنة الدراماتيكية التي انصرمت وبداية السنة الجديدة أن نبحث عن مسوغات كافية لمشروعية المصطلح بالمعنى اللغوي أو الحرفي للكلمة. فمن يرى في الربيع النموذج الدنيوي المصغر عن الفردوس لن يحصل في ظل اللحظة العربية الرجراجة والملتبسة والمقلقة على مبتغاه. ومن يراه مقتصراً على تفتح الزهور والينابيع واكتمال ألق الحياة الفاتن سيحزنه أن يرى بأم العين مشهد الدماء العربية مراقة بغزارة لا توصف في غير مساحة وميدان. ومع ذلك فإن الواقع العربي الراهن لن يكون أقل كرماً من أساطيره القديمة حيث لم يكن الربيع في يوم من الأيام نعمة مجانية توهب للأرض بل ثمرة دماء ودموع وتضحيات لا تضيع مياه أنهارها سدى في بحار مفتوحة على العدم بل تنعقد ثمارها شهية ومعافاة على ضفتي الفاجعة القديمة. هكذا كان شأن إنانا وديموزي على ضفتي دجلة، وأدونيس وعشتروت على ضفتي نهر إبراهيم، وإيزيس وأوزيريس على ضفاف النيل. ولأن لكل مكان عبقريته الخاصة فلن يكون بشر هذه البلاد بمنأى عن طبيعتها، حيث الجناس بين الطبيعة والطباع ينفتح على وجوه شبه عديدة ويعطي للناس صفات الأنهار التي تبدو لشدة ركودها مصابة بالغيبوبة ثم تخرج عن طورها في لحظة الفيضان ليتبدل عندها كل شيء.
لكن ما تتوجب الإشارة إليه في هذا السياق هو أن فكرة الربيع لا تتخذ الشكل نفسه ولا التوقيت نفسه كما هو شأن الفصول في الطبيعة، فضلاً عن أن بعضها قد يتم إجهاضه إلى حين كما حصل لربيع براغ عام 1968 حيث تشاء المصادفة أن يحرق شاب تشيكي نفسه لمنع الدبابات السوفياتية من التقدم ثم لا تؤتي التضحية أكلها إلا بعد عقود عديدة. وقد يكون الربيع خلبياً في بعض الأحيان حيث لا تلبث طلائع الورود التي تجازف بالتفتح المبكر أن تنكمش على نفسها بانتظار اللحظة الملائمة. ثم أيكون ضرباً من ضروب المصادفة أن يكون الربيع الذي نحتفي به اليوم هو الفكرة الجوهرية التي خرجت من رحمها مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تربع على سدة الحكم في ساحتين عربيتين رئيسيتين متسلحاً بأسطورة طائر الفينيق وفكرة الانبعاث الربيعي قبل أن يصد بقبضته الأمنية المروعة كل إمكانية حقيقية لنمو ورود الحرية وتفتحها. ولأن الشعراء يتحسسون أكثر من سواهم نذر المأساة ومواطئ الأحلام المشوهة فقد أعلن خليل حاوي في قصيدته الرؤيوية «لعازر 1962» أن الانبعاث العربي في صورته المتحققة ليس سوى قيامة مجهضة ووجه آخر من وجوه الموت، قبل أن يعمد خيبته بانتحاره الشخصي بعد ذلك بعشرين عاماً. أما الشاعر الإنكليزي ت. س. إليوت فلم يصل في «الأرض الخراب» إلى حد نعي الربيع بشكل كلي ولكنه في قولته الشهيرة «نيسان أقسى الشهور/ يخرج الزرع من الأرض الموات» كان يشير إلى المخاض الصعب للطبيعة كما لسائر البشر المنتظرين ربيعهم فوق جبل العثرات والآلام.
لم يكن لأحد من المنظرين أو المثقفين العرب، ولا لأحد من المنجمين والعرافين الذين يتكاثرون عند مطالع السنوات، أن يتنبأ بذلك الزلزال الأم الذي حدث بداية في أرض تونس ثم ما لبثت هزاته الارتدادية أن تنقلت بين أكثر من بلد عربي. ففوق أرض عربية خامدة وغارقة في الكوما وشبه خالية من أي حراك، وحيث المثقفون منقسمون بين أتباع دهريين للسلطان ويساريين مرتدين إلى عزلاتهم القانطة أو ملتحقين ببقايا الوليمة، يخرج محمد بوعزيزي من الأطراف التونسية الفقيرة ليعيد شحذ الأسطورة المتخلعة بما يلزمها من نيران. إنه الجسد الشرارة الذي يحتاج إلى كل هذا الهشيم لكي يتمكن الحريق من بلوغ نهاياته. هشيم في السياسة والأفكار وأجهزة الحكم والمعارضات وأدوات التحليل، فيما لم يظل من التنوير الذي أخذ بناصيته الكثير من المفكرين العلمانيين والقوميين والإسلاميين سوى ظل باهت لأحلام غاربة أخلت أماكنها لأكثر الأوضاع السياسية والاجتماعية استنقاعاً وبؤساً وظلامية.
كان المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون قد ذهب إلى القول قبل أكثر من قرن كامل بأن الزمن العربي ليس زمناً «موضوعياً»، كما هو الحال في الغرب، بل هو زمن راكد وشديد البطء كالصحراء، ولكنه زمن مفاجئ ما أن تكتمل عوامل تغيره حتى ينفجر دفعة واحدة مطيحاً بكل ما هو قائم. لا أعرف نصيب هذه المقولة من الصحة ولكن ما حدث خلال عام واحد من الحياة العربية لا يناقضها بأي حال. ومع ذلك فإن البوعزيزي لم يتحرك في أرض موات بل تمكن من تحريك قابليات مكبوتة ومضمرة كانت تحتاج إلى صاعق للتفجير. «هنالك غيم شديد الخصوبة/ لا بد من تربة صالحة» يقول الشاعر. ولو لم تكن التربة مهيأة لما كان لمئات الأجساد المماثلة أن تبلغ بالحريق أبعد من حدودها البيولوجية. لقد شاءت الصدف ربما أن يكون أبو القاسم الشابي صاحب كتاب «الخيال الشعري عند العرب» هو الذي اختزل بنشيده الشهير كل توق العرب المزمن إلى ربط الإرادة الشعبية بالإرادة الإلهية التي «ترفع ملوكاً وتهلك آخرين» والتي تجعل للكلمة قوة الفعل وبأسه وسطوته. وشاءت الصدف نفسها أن يكون تونسي آخر هو الذي وضع النشيد على محك الفعل والمجاز على محك الحقيقة والاختبار، حيث لم يعد شيء كما كان ولا قناعة في نصابها.
لم يكن محمد بوعزيزي مثقفاً أو متعلماً لكي نقول إن الشرارة اندلعت من مصدر ثقافي فكري. ومع أنه كان شاباً شبه أمي إلا أن وعيه العميق بالظلم وغياب العدالة جعله يرد على مهانته بأكثر درجات الاحتجاج فداحة وعتواً. يتحول الجسد هنا إلى صرخة أو علامة سؤال أو ضوء كاشف، ويصبح الجسد الأمي، الذي يذكر بالنبوة، أكثر فصاحة من كل ثقافة أو تنظير مجردين. هكذا أمكن للربيع العربي أن يفاجئ العالم ببراءة مصدره. فحيث الأمية متفشية بنسبة عالية، وحيث الناس لا يقرأون إلا أقل القليل، وحيث الطاقات مصادرة أو مشلولة، وحيث العقل مغيب ومعطل والبحوث العلمية في أدنى مستوياتها، تخرج شعوب برمتها إلى الشوارع لترسم أقدارها بالقبضات والدماء المراقة، دون أن تنتظر مشورة المثقفين والساسة وقادة الرأي، أو ننتظر اكتمال وعيها المعرفي بحسب الكثير من الاجتهادات. وقد يكون ذلك الانفصام الجلي بين الثقافة التقليدية وبين حركة الواقع الذي تقوده أجيال لا تأتي من المعرفة «الورقية» بل من الميديا المعولمة وتقنيات الاتصال الحديثة هو ما يمنع الحراك الشعبي العربي من العثور على تعبيراته الملائمة في الشعر والرواية وسائر الفنون. وهو أمر لا يعود فقط إلى تباين الزمنين السياسي والإبداعي بل إلى فجوة حقيقية بين الأجيال الجديدة القائمة بالثورة وبين أجيال المثقفين العاجزة حتى الآن عن استيعاب ما حدث والغريبة عن فقهه النفسي وآلياته ومفرداته. وبانتظار ردم تلك الهوى الفاغرة، أو بلورة الملامح الأولية للمخاض الثقافي والإبداعي الجديد ستظل التعبيرات المباشرة والفولكلورية للتغيرات الجديدة هي التي تتصدر المشهد الآن عبر أسماء عديدة طفت على سطح المرحلة من مثل هشام الجخ وعبد الرحمن يوسف وآخرين.

[ [ [

سيكون من الصعوبة بمكان أن نرى مواطئ نهائية لهذه الرمال المتحركة التي تمخض عنها الواقع العربي في فصوله الأخيرة. ذلك أن الانتفاضات المتعاقبة التي فاجأت الجميع لم تجد الوقت بعد لتنظيم نفسها بشكل فعال أو للانخراط في أطر سياسية واقتصادية وثقافية ملائمة. ورغم كونها انتفاضات ذات طبيعة علمانية وليبرالية وأخلاقية بوجه عام فإنها وهي تثور على أنظمتها العسكرية والأمنية المسلحة بشعارات الصمود والممانعة الجوفاء لم تجد سبيلاً إلى التغيير الديموقراطي سوى صناديق الاقتراع التي صبت في اتجاه آخر، حيث السواد الأعظم من العامة والشرائح التي تم إفقارها وتجهيلها ظل يرى في الدين وتمظهراته السياسية مآله وملاذه. وفي ظل السقوط المتعاقب للمنظومات العقائدية الماركسية واليسارية والقومية و«الأمنية» تقدم الإسلاميون إلى الواجهة بعد أن حرموا طويلاً من نعيم السلطة وسدتها، وبدا زارعو الأشجار في جانب وقاطفو الثمار في جانب آخر. على أن ذلك الأمر لا يجب أن يحجب الجانب الأكثر إشراقاً من المشهد والمتمثل في مبدأ الحراك نفسه، ولا يجب أن يسهم في تظهير صورة من تبقى من الطغاة أو تجديد العقد مع عروشهم الوسخة التي وأدت منذ خمسين عامًا كل محاولة جادة لانبلاج الصباح. قد تتعثر هذه التجربة أو تلك، وقد يحاول بعض الإسلاميين أن يفيد من الديموقراطية الوليدة ليعمل على خنقها في المهد، ولكن شيئاً في هذه الأرض العربية لن يعود كما كان والنهر الذي خرج من عقاله لن تفتنه فكرة المستنقع أو صورة المياه الآسنة.

السابق
روسيا: السيطرة على الحريق الذي نشب في الغواصة ولا تهديد نووي
التالي
عراجي: لنشر الجيش على الحدود اللبنانية السورية