سمة العصر

لا يستطيع عرب اليوم التبرّم، وإعادة إطلاق الأنشودة البلاغية المشروخة ذاتها عن العيد وعودته الكئيبة وحاله الميؤوس منها ومن احتمالات تغيّرها عاماً بعد عام.
الدنيا تغيرت، والحال، للمرة الأولى منذ أزمان سحيقة صارت الى أمر آخر. وما ضَرَبَ وغاصَ عميقاً في الذات والصدور والعقول، والموشّح من أوله الى آخره بنغمة الكآبة المتأتية من الجمود وضمور الحلم وانعدام الرجاء (الصالح والطالح) ودوام الغيم والكلس والفحم والزفت والشحتار.. كل ذلك البيان انقلب في غفلة من الزمان وصحوة من لدن العصر، وذهبت بانقلابه وذهابه مقوّمات سلطوية وسياسية وفكرية الى مكان بعيد وناءٍ، نأي هروب الطغاة من لحظة الحساب.
لا يستطيع روّاد التراث والضالعون في مناحي اللغة. الهائمون في بحور البلاغة. الغارفون من صحون أدب الخطاب ولمعة الشعر. المستأنسون بصحبة العقل وأصحابه وأحبابه. الآخذون من تلّة الزمان وحِكَمِه كمشة اللحظة والاختصار. المتآخون مع رحابة التيه ومولداته الابداعية السماوية منها والأرضية. الراكبون على أحلامهم الى سابع سماء. الحالمون بتطويع الفكرة والمخفي في الخفاء والغامض في الغموض. النائمون على أوراق وهم الخلود. المتأبطون في بواطن لسانياتهم مستحيلات اللغة ومعانيها. الكامشون في ثنايا عقولهم شذرات الفلسفة والطب والفلك والحساب. المعتبرون في ريادتهم، والعارفون معنى تلك الريادة. الدائخون بحثاً عن الحق وأهله وملله ونحله وفرقه وأقوامه. الخائبون من عبث ذلك التحري ورعونة ذلك البحث ووحشة هؤلاء الباحثين.

لا يستطيع هؤلاء ومعهم أهل الحداثة، الضالعون في التأريخ الحديث وعلوم السياسة والاجتماع وفنون التواصل وتقنياته. المهمومون بالأسى والمنفى، بالقمع والاستبداد، بغياب آليات فك الأسر والتحرر من ظلم الاحتلال ولصوصيته ومشاريعه وأقوامه وشتائمه وإهاناته وابتذاله ورخصه وتخلّف نصّه الأول وممارساته الدائمة… لا يستطيع كل هؤلاء أن يتبرّموا بعد اليوم، أو يدّعوا في نصوصهم وحكيهم وتلابيب أحلامهم، ان الزمن غدّار وطائش، يدور أينما كان ويتقدم بآليته الأبدية، لكنه ينسانا خلفه. يمر بنا مختالاً ولا يسأل، تاركاً إيّانا على رصيف التيه والغشيان دائماً وأبداً، ولا يسأل!

لا يستطيع أحد بعد اليوم، ان يقول إن الشمس لا تشرق فوق العرب إلا لتغرّبهم عن العصر وأحكامه، وعن الحداثة وآلاتها وأساليبها، وعن الأنسنة وشروطها.. وان جذر الحرية ومفرداتها، والدولة ومعناها، والقوانين وأحكامها، والعدالة وأسسها، والعلوم ومنجزاتها، والفنون وإبداعاتها وخلقها… ان كل ذلك الخير الوفير لا يرمينا بشيء من عطاءاته، ولا يترك لنا جزءاً يسيراً من مخزوناته وإنتاجه.
تغيّرت الدنيا. بل سمتها صارت سمة ربيع العرب، وشمس حريتهم المشعّة من أول الأرض الى آخرها… زادهم يكفي الناس أجمعين. وأيقونتهم تزيّن جدران بيوتهم والقلوب.. خيرهم عميم، ومن أول الصبح وأول الكلام وأول العصر حتى آخر الزمان: الحرية صارت تحكي عربي!

 

السابق
الراي: بيان عموميات عن مجلس الدفاع الأعلى اللبناني لم يبدّد الهواجس من أثمان كرة النار السورية
التالي
الحياة: مجلس الدفاع لمنع تهريب السلاح وضبط الوضع على الحدود ومكافحة الإرهاب