فرنسا غير الليبرالية

قال الناقد الأدبي الفرنسي، أميل فاجيه، متهكما ذات مرة: «لا أعتقد أنني التقيت فرنسيا ليبراليا من قبل». ولو وجد بيننا فاجيه اليوم لظل محتفظا بتشاؤمه ذلك، خاصة في ضوء آخر أعمال الجمعية الوطنية الفرنسية، وقانونها الذي يعاقب «إنكار مذابح الأرمن»، بعام من السجن وغرامة كبيرة.
بيد أنه ينبغي، قبل الخوض في النزاع مع فرنسا، أن أطلعكم على رأي بشأن ما حدث فعليا للأرمن في الدولة العثمانية عام 1915. لن ألجأ إلى استخدام لغة عنصرية، لكني أعتقد أن الحادث المأساوي يستحق أن يوصف بأنه «تطهير عرقي» وحادث بشع إلى حد بعيد، قتل فيه ما لا يقل عن نصف مليون روح بريئة. وأعتقد أيضا أننا نحن الأتراك ارتكبنا خطأ كبيرا برفضنا لعقود من الزمن النظر إلى المعاناة الكبيرة للأرمن، الذين كانوا جيرانا جيدين لنا لعدة قرون قبل أن يفصل سم القومية العرقية بيننا. ولذلك فإنني لا أؤمن فقط، بل وأدفع أيضا، نحو توجه أكثر صدقا وتعاطفا في تركيا تجاه ما يطلق عليه «القضية الأرمنية».
هذا هو السبب في أنني لم أتضرر من أي إعلان للجمعية الوطنية الفرنسية، أو أي برلمان آخر في العالم، يعبر عن الألم للنكبة الكبرى التي وقعت عام 1915، غير أني أعتقد أنه لا ينبغي للبرلمانات أن تشرع التاريخ، ولكن إذا كانوا يرغبون في التعبير عن الرأي، فهم أصحاب الدعوة ولن أعترض.
دعونا الآن نتوجه إلى فرنسا، وأول شيء أود أن أقوله هنا هو أنه من النفاق أن تقوم هذه الدولة بإعطاء دروس للآخرين حول قدسية الحياة البشرية، في الوقت الذي أزهق فيه المستعمرون الفرنسيون بوحشية أكثر من 1.7 مليون نفس بريئة في الجزائر، وفيه ما يكفي من الأسباب لأن تلتزم فرنسا الصمت خجلة عندما يتعلق الأمر بالتاريخ والإنسانية، ولكن هناك دولا تكيل بمعايير مزدوجة، ودولا تميل إلى التشهير بجرائم الدول الأخرى، بدلا من الاعتراف بجرائمها. لذا، اسمحوا لي أن أكون متسامحا في هذا الشأن.
 بيد أن ما لن أتسامح بشأنه هو عدم المعاداة الواضحة والصادمة لليبرالية التي تبرز خلق القانون الفرنسي الجديد، فهو لا يزعم أن عام 1915 كان تطهيرا عرقيا فقط، ولكنه أيضا يفرض عقوبات على كل الآراء الأخرى، وهو ما يشكل هجوما واضحا ضد حرية التعبير.
وغني عن القول أن مثل هذه القوانين عن «إنكار الإبادة الجماعية»، (بما في ذلك الرفض المطلق لإنكار المحرقة اليهودية) موجودة في فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، لكن ليس في المملكة أو الولايات المتحدة. فالبلدان الأنجلوسكسونية منارات لليبرالية التقليدية، في الوقت الذي لا تتمتع فيه فرنسا بهذه الصفة (وللسبب نفسه، فرضت فرنسا حظرا سخيفا في الآونة الأخيرة على البرقع، وهو أمر لا يمكن تصوره في بريطانيا وأميركا).
جذور هذه التوجهات المعادية لليبرالية، تكمن في اعتقادي، في الركنين الرئيسيين للفكر السياسي الفرنسي، اللذين تطورا منذ حمام الدم الذي يدعى الثورة الفرنسية، والمتمثلين في العقلانية والعلمنة. حيث يستطيع هذان المبدآن الحد من الحرية الفردية، فالعقلانية تعطي الدولة السلطة لمعرفة وفرض الحقيقة، في الوقت الذي تعطيها العلمانية القوة لقمع الدين، وبالتالي يأتي قمع الفكر ومنع البرقع.

وقد عبر المفكر البريطاني توني جوت عن هذه المشكلة ذات مرة بشكل جيد، عندما أشار إلى أنه «الحديث عن الحقوق الطبيعية أو الحقوق في مقابل المجتمع، أو عن حقوق الإنسان ضد تدخل الدولة، لم يكن موضوعا مفضلا في فرنسا»، ولاحظ أيضا أن الفرنسيين أظهروا توجها قويا نحو سلطة تنفيذية قوية أفرزت بدورها نوعا معينا من الليبرالية من خلال الدولة، لا في مقابل الدولة، كما في التقاليد الليبرالية الأنجلو – أميركية.
ولسوء الحظ، لا يمكننا نحن الأتراك أن نقدم الكثير للمساعدة على علاج هذه المشكلات في الفكر السياسي الفرنسي. نحن بحاجة فقط لأن لا نسير على النهج الفرنسي، من خلال زيادة مساحة حرية التعبير وحرية الدين، التي تقلصت بشكل مأساوي على حد سواء خلال القرن الماضي الذي اتسم بالطموح الفرنسي. ونحن، بطبيعة الحال، بحاجة إلى التواصل مع الأرمن لإرساء مصالحة تاريخية لا يمكن لأي طرف ثالث متغطرس أن يعبث بها. 

السابق
عراجي: اتهامأت غصن ضد بلدة عرسال باطلة
التالي
زراعة أول يد ..