طرابلس: ميقاتي يتقدم والأزرق يتراجع

شكل العام 2011 محطة تحوّل هامة في منطقة الشمال التي انتقلت منذ مطلع العام وبفعل التطورات السياسية المتسارعة، من متفاعلة مع الأحداث الى فاعلة ومصدرة لهذه الأحداث، وبدا أن المحافظة المحرومة تاريخيا من البترون مرورا بالعاصمة طرابلس وصولا الى وادي خالد في عكار والتي استقطبت خلال السنوات الست الماضية الأنظار إليها باعتبارها خزانا بشريا و«عدة الشغل» في الانقسام السياسي الحاد في البلاد، تحولت الى موقع متقدم في صياغة القرار السياسي، وبدأت بتوجيه الرسائل الى من يعنيهم الأمر بضرورة التعاطي معها انطلاقا من موقعها السياسي الجديد، وليس من كونها احتياطا إستراتيجيا للقوى السياسية المتناحرة، يستخدم «عندما تدعو الحاجة».
ويمكن القول إن «يوم الغضب الشهير» في 25 كانون الثاني 2011، والذي شكل ردا عنيفا من تيار المستقبل على قبول الرئيس نجيب ميقاتي تكليف تشكيل حكومة، بعد إطاحة سعد الحريري، أعطى انطباعا بأن المواجهات اللبنانية التي كان يشارك فيها أبناء الشمال وتحديدا من مناطق عكار والضنية وطرابلس في العاصمة بيروت ستنتقل الى ساحة العاصمة الثانية التي توقع لها المراقبون عاما ساخنا، إلا أن الوعي الكبير الذي أظهره أبناء طرابلس، ساهم بتعطيل كثير من بنود هذا المخطط لمصلحة المنافسة السياسية التي بلغت أشدها، وذلك بالرغم من كل المحاولات الحثيثة التي جرت على مدار عام كامل لرفع «المتاريس» السياسية والأمنية سواء داخل الفيحاء، أو على الحدود الشمالية في عكار التي تفاعلت من خلال تيار المستقبل مع أحداث سوريا، واستقبلت أعدادا كبيرة من العائلات السورية النازحة التي شكلت في ما بعد عنصر ضغط استخدمه «المستقبليون» لاستهداف «الحكومة الميقاتية» تحت شعار «الحماية والاغاثة»، قبل أن يتحول هذا الضغط باتجاه الداخل السوري انسجاما مع تصعيد زعيم المستقبل سعد الحريري ضد النظام، وذلك من خلال إيواء المعارضين السوريين والضباط المنشقين وتأمين الممر الآمن لجرحى المواجهات، فضلا عن الخروقات الأمنية المختلفة والحديث عن تهريب الأسلحة، وعن وجود ضباط أجانب للتدريب والتنسيق مع الثوار، وعن إقامة مخيمات للاجئين، الأمر الذي حوّل عكار وحدودها الشمالية الى خاصرة أمنية رخوة تحسب لها الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية ألف حساب وتضعها تحت المجهر بشكل مستمر.

طرابلس عاصمة للسياسة

لا يختلف اثنان على أن طرابلس استعادت في العام 2011 بريقها وتأثيرها في المعادلة السياسية اللبنانية، وغدت شريكة أساسية في الحكم، وذلك لأول مرة منذ العام 1992، باستثناء الفترة الزمنية المقتطعة من هذه المرحلة والمتمثلة بأربعة أشهر تولى فيها الرئيس عمر كرامي رئاسة الحكومة (2004ـ 2005)، لكنها لم تكن كافية لتأمين شراكة وحضور كاملين لطرابلس في الحكم، بل على العكس فقد انتهت بمردود سلبي بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في حين جاءت الفترة المتعلقة برئاسة نجيب ميقاتي لحكومة انتخابات العام 2005 لنقل البلاد من دفة الى أخرى من دون أن تتمكن العاصمة الثانية من حصد المكتسبات التي تطمح إليها، لتعود بعد ذلك الى سباتها العميق مع حكومات الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري بالرغم من أنها منحت مع سائر المناطق الشمالية قوى 14 آذار الأكثرية النيابية في دورتين انتخابيتين، وكان لها اليد الطولى في حشد أعداد المواطنين في كثير من الاستحقاقات الشعبية وفي الدفاع عن حكومة الرئيس السنيورة الأولى، لكنها بقيت شريكة في الغرم، وبعيدة كل البعد عن الغنم.
وبدا واضحا أن طرابلس دخلت في العام 2011 مرحلة جديدة سواء على صعيد عودتها الى الحكم من خلال تولي إبنها نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة وحصولها على حصة وزارية وازنة للمرة الأولى في تاريخها تمثلت بتوزير كل من: محمد الصفدي، أحمد كرامي، فيصل عمر كرامي ونقولا نحاس، أو على صعيد الفرز السياسي الحاد الذي أحدثته هذه العودة وذلك للمرة الأولى منذ العام 2005، لجهة تفكك كتلة التضامن الطرابلسي التي تشكلت من النواب الثمانية الذين فازت لائحتهم في انتخابات العام 2009، وهي اجتمعت لمرة واحدة فقط مطلع العام 2011، قبل أن تفرق السياسة ما جمعته الانتخابات، وتتلاشى مشاريع طرابلس من جديد وتذهب الخطة الانمائية التي وضعتها الكتلة بواسطة شركة أجنبية بكلفة 300 ألف دولار أدراج الرياح، وتتعطل جمعية التضامن الطرابلسي للإنماء، ويتحول شعار «التعاون والتنسيق بهدف التنمية» الذي انتخب شعب طرابلس نوابه على أساسه، الى خلاف وتناحر مع قبول الرئيس ميقاتي تكليف تشكيل الحكومة في 24 كانون الثاني.
ولا شك في أن طرابلس التي دفعت الأثمان السياسية والأمنية والاقتصادية والانمائية الواحد تلو الآخر منذ تاريخ استشهاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري، استبشرت خيرا بتكليف الرئيس ميقاتي تشكيل الحكومة بداية، وتاليا بالتشكيلة الحكومية التي حصلت فيها على حصة وازنة تمثلت بأربعة وزراء، ما يمكنها من العودة القوية الى المعادلة اللبنانية التي همشت عنها لسنوات طويلة، لذلك فقد أفسحت في المجال أمام ميقاتي للتعبير عن نفسه وإثبات حضوره السياسي وقدرته على ممارسة الحكم وتدوير الزوايا، ومنحه حق الدفاع عن نفسه بأنه لا ينفذ أجندة محلية أو إقليمية وأن حكومته ليست حكومة حزب الله، وذلك من دون أن تتخلى عن سعد الحريري، فوجدت أن الحل الأمثل هو في اعتماد مبدأ الحياد في كل المحاولات التي أراد منها تيار المستقبل استهداف ميقاتي في مدينته ونقل الصراع السني ـ السني إليها، فأحجمت عن المشاركة في يوم الغضب الذي انعكس سلبا على تيار المستقبل واضطر سعد الحريري من بعده الى تقديم اعتذار الى الطرابلسيين وإلى كل من استهدفه «المشاغبون» القادمون من خارج طرابلس، وجاءت مشاركتها خجولة في مناسبات 14 آذار ولا سيما في مهرجان 18 آذار الذي حضره الرئيس سعد الحريري شخصيا وكان يهدف من خلاله الى توجيه ضربة استباقية لميقاتي لدفعه الى الاستقالة قبل تشكيله الحكومة، كما لم تتفاعل المدينة مع دعوة الرئيس فؤاد السنيورة لتشكيل مجلس قيادة لطرابلس، أو صندوق لتنميتها ومع شعار مدينة منزوعة السلاح، وجاءت ردة فعلها باردة على صدور القرار الاتهامي للمحكمة الدولية.
كذلك فقد نأت طرابلس بنفسها عن كل التحركات المناهضة للنظام السوري التي نظمتها أطراف إسلامية تدور في فلك المعارضة الجديدة، وتركت التظاهرات والاعتصامات على مدار تسعة أشهر لأهلها، خصوصا أن بعضها حاول استهداف الرئيس ميقاتي وحكومته على خلفية وقوف حزب الله وقوى 8 آذار الى جانب القيادة في سوريا، واتهام الحكومة بالتقصير في إغاثة النازحين، فلم تنفع 21 مسيرة في منطقة القبة عقب صلاة الجمعة في تشجيع المواطنين على المشاركة فيها، ولم تبدل التجمعات الشعبية التي أقيمت في معرض رشيد كرامي الدولي وفي ساحة التل وفي ساحات المناطق الشعبية من قناعة الطرابلسيين بضرورة تحييد مدينتهم عن أية صراعات، خصوصا أنهم خبروا الى ماذا يمكن أن يؤدي أي خلل أمني قد يحصل في هذا الاطار، عندما خرجت إحدى التظاهرات عن مسارها وانطلقت باتجاه التبانة في 17 حزيران الفائت وأدت الى انفلات الوضع الأمني بين التبانة والقبة وبين جبل محسن، حيث حصدت 12 ساعة من المواجهات العسكرية 8 قتلى وأكثر من 80 جريحا، وقد تزامن ذلك مباشرة بعد الاعلان عن التشكيلة الحكومية وعودة الرئيس ميقاتي والوزراء الأربعة الى طرابلس لاستقبال المهنئين، الأمر الذي ترك سلسلة تساؤلات وعلامات استفهام حول المستفيد من تفجير الوضع الأمني في طرابلس وفي هذا الوقت بالذات.
بعد انتقال الرئيس ميقاتي الى السرايا الكبيرة، لمس الطرابلسيون حرص إبنهم على التمسك بصلاحياته، وعلى حفاظه الكامل على هيبة الرئاسة الثالثة، وعدم الرضوخ لأي من القرارات التي لا تتماشى مع تطلعاته، فضلا عن قدرته على استيعاب كثير من الصدمات واجتياز العراقيل وتحويلها لمصلحته، وانتزاعه بعض المكتسبات من حزب الله والتيار الوطني الحر لم يكن سعد الحريري قادرا على انتزاعها، فضلا عن ثقته المطلقة بتمويل المحكمة الدولية التي كان تيار المستقبل وقوى 14 آذار يتخذانها منصة دائمة لاستهدافه.
كل ذلك منح الرئيس ميقاتي جرعة إضافية من الثقة الطرابلسية، خصوصا أنه لم يكتف بالعمل الحكومي بل عمل على تحصين ساحته ضمن مدينته من خلال تنسيقه وحليفه الوزير محمد الصفدي مع الرئيس عمر كرامي الذي شكل غطاء سياسيا ومحليا للحكومة، وللحركة الوزارية الطرابلسية التي وجد تيار المستقبل نفسه غير قادر على مواجهتها، خصوصا في ظل استمرار غياب رئيسه سعد الحريري وعدم التزامه بالوعود التي أطلقها مرارا وتكرارا عند كل استحقاق بفتح «حنفية» المساعدات والخدمات والتقديمات بسبب الأزمة المالية التي أرخت بثقلها على التيار بكامل هيكليته الادارية والشعبية.
وشكل مهرجان «ربيع الاستقلال.. خريف السلاح» الذي نظمه تيار المستقبل مؤخرا على مقربة من منزل الرئيسين نجيب ميقاتي وعمر كرامي ومحمد الصفدي، بهدف إسقاط الحكومة، مؤشرا واضحا على عدم تجاوب الشارع الطرابلسي مع التيار الأزرق، خصوصا بعد الوعد المطلق لميقاتي قبيل المهرجان وفي برنامج كلام الناس بتمويل المحكمة، ووفائه به بعد أقل من 72 ساعة حيث أعلن تحويل حصة لبنان من التمويل، الأمر الذي أعطى ميقاتي صدقية تامة، وأفقد التيار الأزرق سلاحا أساسيا كان يعتمد عليه في محاربته.
أمام هذا الواقع، بدأ تيار المستقبل يشعر بصعوبة مهمته في تأليب الشارع الطرابلسي ضد رئيس الحكومة، وبدأ يحسب ألف حساب للاستحقاق الانتخابي في العام 2013 في ظل التقارب المتنامي لحلف نجيب ميقاتي ـ عمر كرامي ـ محمد الصفدي، خصوصا أن كثيرا من كوادره بدأ يسأل: على ماذا نحارب نجيب ميقاتي؟ وترافق ذلك مع الرسالة الأميركية التي جاءت مؤخرا عبر تمنيات مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان على التيار وقوى 14 آذار التعاون مع ميقاتي، الأمر الذي أكد لكثير من القيادات والكوادر أن الحريري لن يكون له مكان في المرحلة الراهنة، خصوصا بعدما ربط مصيره السياسي بمصير النظام السوري.
لم يعد خافيا على أحد أن تيار المستقبل لم يعد متحكما بصورة حديدية بالشارع الطرابلسي، لا بل ثمة مؤشرات بدأت تقلق قيادة التيار حيث سجلت زيارات متكررة وغير مسبوقة للأمين العام للتيار أحمد الحريري الى طرابلس بهدف شد العصب الأزرق باستمرار، ومن أبرز هذه المؤشرات وجلها في الشهرين الأخيرين من العام 2011: المشاركة الطرابلسية الخجولة في مهرجان خريف السلاح، الارتدادات السلبية في مختلف المناطق الشعبية لوقف الخدمات بشكل كامل، عدم تأثير مقاطعة قيادة المستقبل لغداء رئيس الحكومة الذي أقامه على شرف رئيس الجمهورية في طرابلس، حيث نجح ميقاتي في استقدام أركان الدولة الى المدينة وفي إشراك أكثر من ألف شخصية طرابلسية وشمالية في حفل الغداء، خسارة تيار المستقبل للمقعد السني في انتخابات مجلس نقابة المحامين في طرابلس حيث أخفق مرشحه الطرابلسي توفيق بصبوص لمصلحة مرشح حزب الاتحاد عبد القادر التريكي المدعوم من قوى الأكثرية، الخسارة المدوية للتيار الأزرق في انتخابات نقابة أطباء الأسنان التي يتحكم بمناصبها منذ أكثر من ست سنوات، حيث فازت المرشحة المستقلة راحيل الدويهي على حساب مرشحيّ المستقبل و«القوات اللبنانية»، هذا بالاضافة الى صراع النفوذ الحاصل ضمن منسقية طرابلس والذي ينعكس سلبا على أداء التيار في المدينة..
ومما يعزز كل هذه المؤشرات، هو أن تيار المستقبل وبالتحالف مع قوى 14 آذار تمكن في النصف الأول من العام بالفوز بمنصب نقيب المهندسين في الشمال وفي نقابة موظفي المصارف.
وعلى الصعيد الطرابلسي أيضا شهد العام 2011 حضورا سياسيا لافتا للوزير محمد الصفدي الذي كان أحد أبرز الدعائم في مسيرة الرئيس ميقاتي الذي وصفه عقب تكليفه بالشريك الأساسي في تشكيل الحكومة التي حصل فيها على منصب وزير المالية، وقد دفع ثمن موقفه محاولة إحراق مكاتبه الخدماتية في يوم الغضب الشهير، في وقت تستمر فيه مؤسسة الصفدي بتقديم الخدمات والعمل على إبراز وجه طرابلس الثقافي والحضاري من خلال الاتفاقيات الدولية التي تعقدها والنشاطات الثقافية والفنية المختلفة التي تنظمها.
وحمل النائب أحمد كرامي للمرة الأولى في تاريخه السياسي لقب «معالي الوزير»، وهو كان الشريك الطرابلسي الثالث لميقاتي والصفدي في قلب المعادلة السياسية.
ومثل فيصل عمر كرامي المعارضة السنية السابقة في الحكومة وسارع الى تفعيل عمل وزارة الشباب والرياضة في مختلف المناطق، ونشط في إعادة التواصل مع كثير من الكوادر الكرامية على صعيد محافظة الشمال ككل. كما دخل الأرثوذكسي الطرابلسي نقولا نحاس الى الحكومة من باب وزارة الاقتصاد.
بالمقابل شكل النائب محمد كبارة رأس حربة في الهجوم على الحكومة وعلى سلاح حزب الله، والنظام السوري، وحماية النازحين، لكن ذلك لم يمنعه من السعي مع سائر الأطراف في المدينة على تجنيب طرابلس كثيرا من التوترات الأمنية، حيث كان له اليد الطولى في حل الأزمة الأمنية منطقة الزاهرية التي اتخذت بعدا مذهبيا، كما تعرض مكتبه في محلة النوري لاطلاق نار من قبل مجهولين.
وتابع النائب روبير فاضل خطواته الانمائية عبر إطلاق جائزة موريس فاضل لاختيار أفضل خطة عمل للسنة الثانية على التوالي، ودعمه يوم طرابلس خالية من السيارات، وكان لافتا معارضته الشرسة لمشروع قانون الانتخابات الذي طرحه اللقاء الأرثوذكسي والقاضي بأن تنتخب كل طائفة نوابها.

السابق
الكتائب وقانون الانتخاب
التالي
المحامون عن المتهمين باغتيال الحريري