رُخص الكارثة

 ما فعله الاتراك بالشعب الارمني في عهد الحرب العالمية الاولى يستجيب لمعايير "الكارثة" من حيث حجم المذبحة ومنهاجيتها، ان لم يكن من حيث الايديولوجيا المجنونة والمنظمة خلفها. على المستوى المبدئي، يوجد مبرر كامل لان تعترف اسرائيل بها وهي التي قامت على انقاض كارثة يهود اوروبا.
السؤال هو هل اسرائيل اليوم، التي بات رخص الكارثة فيها أمرا منتشرا – والناجون من الكارثة أنفسهم ممن تأممت مصيبتهم منذ زمن بعيد، يحرمون بشكل فظيع من حقوقهم – لا تزال جديرة أخلاقيا بالوقوف على رأس المعسكر المطالب من شعب آخر بالاعتراف بما فعله بأقلية ضعيفة في داخله.
الكارثة تشكل اليوم في اسرائيل عملة للاتجار. كل شيء نستحقه بسببها، من التبرير التلقائي لكل فعل بالقوة وحتى الصناعة الشاملة لسفريات التلاميذ. السفريات نفسها مفيدة، وان لم تكن متساوية لكل فرد؛ ولكن في عملية الاعداد لها، والتي تجري على مدى أشهر في صفوف الثاني عشر، فان الرسالة الاساس التي تنقل الى التلاميذ هي كم يكرهوننا في العالم، كم نحن عرضة لخطر مستمر فقط بسبب كوننا يهود – وعلى نحو مبطن، كم مبرر بالضرورة كل فعل تقوم به اسرائيل. من يحاول الادعاء بانه لا يزال للكارثة رسالة ذات مغزى، وهي أن الكائن الشرير موجود في قلب كل انسان وان من واجبنا الاعتراف بذلك والكفاح ضده في كل مرة يرفع فيها الرأس، يعتبر كمن يصرف النقاش عن مساره.
هذا يبدأ من فوق. قادة دولة سيادية ذات قوة عسكرية بحجم قوة عظمى يكررون وصف اعداء مختلفين بتعابير نازية. كل منظمة معادية هي هتلرية، كل تهديد هو وجود. عندما انطلقت اسرائيل الى حرب ضد حزب الله، منظمة ارهابية تهاجم مدنيين ولكنها صغيرة بالنسبة لقوتها العسكرية، استخدمت وسائل الاعلام الاسرائيلية بتشبيهات الكارثة لتبرير العملية. هذه النبرة تظهر تقريبا في كل حالة نقف فيها نحن ضد العالم، حين تحاكي الحياة مسرحية الخماسية الكامرية التي يسعى فيها ممثلو الوكالة الى نيل التنزيلات لراكض المسافات الاسرائيلي باسم معاناة الشعب اليهودي
كل منتقد هو بالضرورة معاد ولا سامي. منظمات مختصة تتابع كل "تدخل أجنبي" في شؤوننا الداخلية، نواب يركبون موجة الخوف يحثون تشريعات سخيفة بناء على ذلك. تشريع آخر مخصص لحمايتنا من مجرد الاعتراف بالمعاناة التي اجتازها الشعب الفلسطيني في اثناء قيام دولة اسرائيل. إذ أنه عند التجارة بالمعاناة، محظور منح أي احد آخر حتى ولا عملة متآكلة – ومجرد الاعتراف بان أحدا آخر عانى، يعتبر على الفور تشكيكا بعدالة موقفنا.
بدلا من أن نسأل انفسنا، انطلاقا من موقع قوة وايمان حقيقيين، أين نحن اخطأنا، نمتشق "دفاع الكارثة" بشكل تلقائي، وكأن شعبا تعرض للظلم بهذا القدر الشديد لا يمكن له أن يخطيء.
في هذا الوضع، النقاش في الكنيست في كارثة الشعب الارمني ليس أقل سخفا. حقيقة أن اسرائيل امتنعت عنه على مدى السنين خشية رد فعل من تركيا، واليوم يطرح أساسا لان الاتراك ونحن لم نعد كما كنا من قبل، تثبت فقط كم اصبحت عندنا الامور الاخلاقية ناشئة عن الوضع السياسي وليس العكس.
دولة أقامت علاقات محظورة مع جنوب افريقيا الابرتهايد، صدرت السلاح لكل نظام طاغية (إذ ينبغي نيل الرزق، ولماذا نكون جميلي النفوس)، وزير خارجيتها أعرب مؤخرا فقط عن تأييد تلقائي لفلاديمير بوتين، تعقد نقاشا هزليا في معاناة شعب آخر – فقط لان من الحق المعاناة تحول من صديق وحليف الى مناكف حاد. هذا ايضا رخص للكارثة. 

السابق
للانفصال ثمن
التالي
لماذا حدث هذا لنا؟