أمثولة الميلاد لربيع الثورات

 ثابت تاريخياً أن عيد الميلاد لم يُعرف منذ بداية الدين المسيحي. لا بل جاء متأخراً نسبياً في تاريخ المسيحية؛ إذ كانت قد مضت عشرات الأعوام على «الميلاد التاريخي» قبل تأسيس العيد. أصلاً، هو منطق التمأسس لكل فكرة دينية، في مراحلها الثلاث: تبدأ سلوكاً فردياً دعوياً إصلاحياً، ثم تتطور إلى منظومة فكرية إيديولوجية، قبل أن ترسو في إطار مؤسسة تنظيمية ناظمة. وأحياناً، والبعض يقول، غالباً ما تنتهي المؤسسة الدينية إلى «تصنيم» الفكر و«تخشيبه»، لتنتهي بمسخ السلوك المؤسس…
المهم أن عيد الميلاد لم يظهر كمناسبة إلا نتيجة سببين موجبين: الأول ظهور جماعة المعمدانيين، الذين يقولون بألوهية يسوع المحصورة في الزمن، بين اعتماده على يد يوحنا المعمدان، وبين صلبه لا غير. أي إنه بحسب تلك «البدعة»، قبل العماد وبعد الصلب، ليس يسوع غير مجرد إنسان. أما السبب الثاني فاتجاه المسيحية ـــــ المؤسسة يومها إلى إلغاء «الديانات الأخرى»، بكل شعاراتها ورموزها ومناسباتها. هكذا كانت فكرة عيد الميلاد، ضرورة مؤسسية للرد على المعمدانيين من جهة، بإرساء مناسبة «مقدسة» تقول بألوهية يسوع السرمدية، وضرورة تبشيرية لإلغاء عيد «إله الشمس» الذي كان يحتفل به الوثنيون في هذا النهار بالذات، 25 كانون الأول. يظهر من تاريخية التأسيس المختصرة هذه، أن عيد الميلاد كان نوعاً من نزوع المسيحية ـــــ المؤسَّسة الى أمرين: أولاً مصادرة فكرة التطور التدريجي التاريخي لمفهوم الله لدى البشر، وثانياً إلغاء أي فكرة مغايرة لها. لذلك ربما لم تنتشر تلك المناسبة في طقوسها واحتفالياتها بسرعة، ولم تعرف «العولمة» التي شهدتها لاحقاً. بعدها دخلت المسيحية ـــــ المؤسَّسة في طور «الدولة»، فنخرتها كل أمراض الدول، حتى خيضت باسمها الحروب، وسالت الدماء بذريعة من افتدى كل بشري بآخر نقطة من دمه.
قد يكون جائزاً القول إن الميلاد، كما المسيحية وسيدها، لم يستعيدوا ألقهم و«روعة الحقيقة»، إلا نتيجة تطور أمرين اثنين:
أولاً، مع إعادة اكتشاف «يسوع التاريخي». أي يسوع الإنسان وحسب، ذاك الذي ولد في ظل بؤسين عظيمين: بؤس الاحتلال الخارجي الروماني لأرض فلسطين، وبؤس «مؤسسة الهيكل اليهودي»، أي الطبقة السياسية الحاكمة في أورشليم، بالتعامل والتعاون والاستتباع للاحتلال. وكان الناس حيال ذلك قسمين: قسم أول يحتمل ذل الاحتلال، علَّ الإمبراطورية بحداثتها وعصرنتها تحرره من فساد أهل الهيكل وانحلالهم، فيقبل أن يدفع موقتاً من سيادته ثمناً لتحرر ذاتي داخلي. وقسم ثان يحتمل ظلم المؤسسة الحاكمة، لتقطيع الوقت وزوال الاحتلال بأقل خسائر وأثمان، فيدفع من كرامته كمواطن، ضريبة انتظار الحرية السيادية المأمولة. يسوع التاريخي الذي اكتُشف بعد قرون، كان بكل بساطة ذاك الثائر والمقاوم في آن واحد. الثائر على مؤسسة قيافا، والمقاوم لاحتلال القيصر، وكان الاثنان معاً من دون نقطة دم، غير دمه… حتى انتصر على الاثنين، وانتصر خصوصاً على موتهما وموته والموت.
الأمر الثاني الذي ساهم بنحو رئيسي في «عولمة» عيد الميلاد، لم يكن غير بابا نويل، أي باختصار تلك الشخصية الأسطورية العالمية العابرة للزمان والمكان، حاملة قيمتين حاجتين لكل طفل ـــــ إنسان: الفرح والخير.
من دون يسوع التاريخي المكتشَف خصوصاً مع لاهوت التحرير، ومن دون باب نويل، الشيخ المقدود من توق الطفل الدائم فينا إلى الخير والفرح، لظل عيد الميلاد على الأرجح مشروع حرب كنسية مع المعمدانيين أو الوثنيين.
أي عبرة أو درس أو أمثولة يمكن استخلاصها من كل ذلك، ليومنا ولأرضنا الغارقة ضمن محيطها في زلازل الثورات الربيعية، لحظة تخبطها في الدم المستعاد والخيبات المتكررة وأكل الأبناء ووأد الأحلام والخوف على ضياع ميلاد يوم آخر أفضل مختلف؟ أمثولتان تبدوان ممكنتين، لعالم مختلف يواجه اليوم مخاض «ربيعاته» وثوراته:
الأولى أن التاريخ، كمعلم الأكبر، يفرض علينا الاعتراف بأولوية الإنسان، وبمحورية الإنسان، وبهدفية الإنسان، قبل كل شيء وفوق كل شيء. درس التاريخ لنا أن كل تشكل بشري أو متحد إنساني لا يجعل من العقد الاجتماعي أساساً له، لا يمكن أن يبلغ الخير. فحين يكون أي مجتمع مجرد ساحة لمعركة مستدامة، غرفة عملياتها في سماء ما، تكون النهاية السوداء، أو الحمراء محتومة لهذه الأرض كما لتلك السماء.
الأمثولة الثانية أن أول خطوة نحو ذلك، هي فهم كل نص ديني، على أنه نص تاريخي، بلا مطلقات ولا دوغماتيات، وعلى أنه قابل للتطور والتكيف والتحول، من أجل الهدف الثابت الوحيد: خير الإنسان وفرحه، في حياته الأرضية بالذات، لا في أي فكرة يوطوبية أخرى.
هل ينجح ثوار هذا العالم في ذلك؟ سؤال برسم كل رجل ـــــ طفل، ينتظر فرحاً وخيراً. 

السابق
ولادة وطنيات جديدة في المنطقة
التالي
نوري المالكي… على مهلك!