14 آذار في الاتّجاه المعاكس!

في 14 آذار 2005 كانَ الانتقال الكبير من المربّعات الطائفيّة إلى رحاب الشراكة والوطن والمواطنة. وهو الأمر الذي كانَ التمهيد له جارياً على قدم وساق بين المسيحيّين المتجمّعين في “لقاء قرنة شهوان” برعاية الكنيسة ورأسها البطريرك التاريخيّ نصر الله بطرس صفير من جهة وبين الرئيس رفيق الحريري الرمز الوطني المسلم من جهة ثانية، وبينهما الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط من جهة ثالثة.

في مرحلة “النضال” من أجل إسقاط الوصاية السوريّة ونظامها الأمنيّ، الذي لم يحصل إلّا باستشهاد الرئيس رفيق الحريري، كان لبنان – على نطاق واسع – يعيشُ ما فوق الطائفيّة والاعتبارات الطائفيّة خصوصاً على صعيد قوى الاستقلال الذي “سيأتي”. ولذلك كان “النزول” إلى الشارع في 14 شباط و 14 آذار من ذلك العام عابراً للطوائف. ونزل اللبنانيّون من كلّ الطوائف والجهات والانتماءات ولم ينتظروا دعوات حزبيّة تأتيهم “من فوق”. ولذلك كان يوم 14 آذار 2005 في نظر أعمق المحلّلين “لحظة تاريخيّة” للبنان، أسّست للمواطنة وأطلقت ديناميّة اختلاط مدنيّة وأرست – للمرّة الأولى في التاريخ اللبنانيّ – رأياً عامّاً بشّر بانتهاء ما يسمّى “الأكثريّة الصامتة”.

والحركة الاستقلاليّة التي صار اسمُها حركة 14 آذار تأسّست على ذلك كلّه مجسّدة الشراكة الإسلاميّة – المسيحيّة من ناحية، والرأي العام “المدني” من ناحية ثانية، واعدةً بذهاب لبنان واللبنانيّين نحو المشروع العام، المشروع الوطنيّ الموحّد لكلّ اللبنانيّين، معلنةً انتهاء مرحلة المشاريع الطائفيّة “الخاصّة” فعليّاً “هذه المرّة”، على اعتبار أنّ ما بين إقرار اتّفاق الطائف والعام 2000 تاريخ تجدّد “التواطؤ” الإسلاميّ – المسيحيّ ضدّ الوصاية السوريّة، لم يتبلور ذلك المشروع الوطنيّ الموحّد.

لا حاجة في هذه السطور إلى تقويم المرحلة الممتدّة من 2005 إلى اليوم بإنجازاتها وإخفاقاتها.

بيدَ أنّ الصوت لا بدّ أن يرتفع للقول إنّ ما تشهده 14 آذار نفسُها هذه الأيّام هو عكس ما قامت على أساسه، هو مسار معاكس من المشروع الوطنيّ الموحّد إلى المربّعات الطائفيّة مجدّداً… في إسقاط واضح

لـ”فكرتها” الأصليّة.

ولنلاحظ معاً المسلسل الآتي:

صار مطلوباً من الرئيس سعد الحريري أن يؤدّي كزعيم للطائفة السنّية. مهمّته أن يقول للطوائف الأخرى “والله لا أعتبر انتصار الثورات العربيّة عموماً والثورة السوريّة خصوصاً انتصاراً سنّياً، واللهِ لن أعتبر نفسي منتصراً على الآخرين في لبنان من موقع تمثيلي للسنّة”. مهمّته أن يطمئن الآخرين. لكأنّما سعد الحريري يراد له – حتىّ من الحلفاء الأقربين – أن يُستدرج إلى الموقع السنّي (وهذا ما يناقض “الفكرة الحريريّة”)، وأن يباشر عمليّة فرز ومحاصصة. وذلك على الرغم من تكراره التمسّك باتّفاق الطائف وبالمناصفة الإسلاميّة – المسيحيّة، وعلى الرغم من حقيقة كونه زعيماً لطائفته وزعيماً لبنانيّاً في آن. وعندما نقول إنّه “صار مطلوباً” من الحريري كذا وكذا، فإنّ الطالِب من “أهل بيت الحلفاء”… أو بكلام أدقّ، صار الحلفاء يتصرّفون على هذا الأساس.

أمّا مسيحيّو 14 آذار فإنّهم يبدون من خلال مواقف تارةً وممارسات تارةً أخرى أصحاب أولويّات طائفيّة. التنافسُ على من يكون الرقم واحد. أولويّة الطائفة على ما عداها، حتىّ إنّ أحد النوّاب الحزبيّين الشباب إذ يعتمدُ تكتيك الهجوم على “حزب الله” محيّداً حليفه العونيّ لا يُخفي مشروعاً مسيحيّاً خاصّاً. أيّ موضوع للمسيحيّين صلة به هو موضوع مسيحيّ خاصّ. وصولاً إلى تبنّي الاجتماع المارونيّ الأخير في بكركي فكرة قانون انتخاب تنتخب بموجبه كلّ طائفة نوّابها!

وكان وليد جنبلاط عندما ترك 14 آذار برّر الأمر في حينه بأمن طائفته ومصالحها.

ماذا نتجَ عن كلّ ذلك حتّى الآن؟

في لحظة تاريخيّة عشيّة تحوّل استراتيجيّ كبير في سوريا يشكّل فرصة للبنان واللبنانيّين، غابت 14 آذار، بما هي في جانب منها ائتلاف يفترض أن يجسّد الشراكة، عن الوعي. صارت أقرب إلى “أقاليم”، إقليم مسلم وإقليم مسيحيّ وإقليم لمختلف الهويّات. وغاب تالياً الوعي الواحد والقراءة الواحدة والمشروع الواحد.

وفي هذه اللحظة بالذات يحصلُ انكفاءٌ نحو المشاريع الطائفيّة والمعالجات الطائفيّة. وتبعاً لذلك تطيرُ المواطنة ويطير اتّفاق الطاف ويطير الإرشاد الرسولي والمجمع البطريركي.

وفي هذه اللحظة بالذات يطير العيش المشترك ليغدو عيشاً فيديراليّاً أو مفدرلاً.

وفي هذه اللحظة أيضاً يطيرُ مشروع الدولة.

وفي هذه اللحظة يدفعُ الرأي العام الـ 14 آذاريّ بين اتّجاهين: إمّا الإحباط وإمّا الالتحاق بطائفة وبممثّلها “الشرعي”.

والأخطر الأخطر أنّه في هذه اللحظة التي يفترض بـ 14 آذار “لو كانت موحّدة” أن تخاطبَ اللبنانيّين من كلّ الطوائف برؤية موحّدة للمرحلة المقبلة، فهي تُعطي “حزب الله” هديّة ثمينة. ذلك أنّ الذهاب نحو المربّعات الطائفيّة للتفتيش عن حلول إنّما هو تشريعٌ لا ريب فيه لسلاح “حزب الله”، إذ ماذا سيمنع الحزب من أن يقول إنّ طائفتي تلزمها حماية سلاحي؟!

بكلمات قليلة، إنّ واقع 14 آذار القائم… حيثُ بعضُ التنسيق فقط يُكتفى به، وحيثُ الأمانة العامّة حوّلها هذا الواقع إلى “صورة أسبوعيّة”، إنّما هو واقع مؤسف، بل هو خيبة، بل هو صفعة لـ 14 آذار 2005!

في لحظة كان يُفترض بـ 14 آذار أن تستثمر في التطوّرات في رحاب الربيع العربيّ مشروعاً وطنيّاً جامعاً، تعاني التفكّك.

هل ثمّة مجال بعدُ لمبادرة تُعيد إنتاج 14 آذار لأنّها مثّلت أشياء ثمينة في التاريخ اللبناني القريب؟

هل ثمّة مجال من أجل ربيع لبنان المتجدّد الآتي؟

هل ثمّة مجال كي يربح لبنان فرصته التاريخيّة؟

الجواب المفترض: نعم، ثمّة مجال!

السابق
جمال الجراح: المسيحيون في سوريا لا يريدون الحماية من النظام الحالي
التالي
جهة حزبية فاعلة