قراءة في بيان بكركي: أعيدوا النظر فيه

لم يتريث «اللقاء الماروني» حتى انتهاء الحكومة الميقاتية من درس اقتراح مشروع قانون الانتخابات النيابية، اذ قرر «القوطبة» عليه ببيان صدر عن اجتماعه الأخير اعتبر فيه طرح «اللقاء الأرثوذكسي» صيغة صالحة لتحقيق التمثيل العادل والفاعل لكل الفئات الشعبية ولترسيخ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين التي تكرس العيش المشترك مؤكداً حق الطوائف في الاختيار الفاعل والصحيح لممثليها…

كان يمكن التعامل مع البيان الصادر عن المجتمعين في بكركي كأي بيان سياسي إلا ان مواصفات اللقاء تنزع عنه ذلك كونه انعقد بدعوة من البطريرك الماروني بشارة الراعي وفي الصرح البطريركي بالذات وبحضور جميع قادة الموارنة وبهذا يكون البيان قد صدر مثقلاً ببركات رعوية ومعنويات سياسية هي أقصى ما يمكن أن يتحصن فيه أي بيان في التركيبة اللبنانية البالغة الدقة والحساسية.

وقبل التوقف عند طروحات البيان التي هي على تماس مع الميثاقية والمفاهيم الوطنية والنظامية الضابطة لكيانية الدولة وأحكام النصوص الدستورية لا بد، أولا، من تسجيل «عتب نيابي». فبين الذين شاركوا في اللقاء وزراء ونواب ممثلون في المؤسسات الدستورية التي تشارك في صنع المشاريع وإقرارها فكيف يمكن ان يتبنوا، ولو مبدئياً، طروحات البيان من دون العودة إلى مجلس الوزراء الذي يتمثلون فيه مباشرة وأليس صدور البيان ببركة صرح طائفي وموافقة نواب الطائفة يجعل الهوية الطائفية قيّمة على الهوية الوطنية؟ الأمر نفسه يسري على نواب من 8 و14 آذار أيدوا البيان من دون أن يعودوا للدستور الذي جعلهم بمثابة ممثلين للأمة؟ يقترح المشروع الأرثوذكسي الذي تبناه اللقاء المسيحي في بكركي ان تنتخب كل طائفة ممثليها في مجلس النواب. وفي هذا مخالفة واضحة لنص المادة 27 ـ دستور التي لا يمكن لأي قانون انتخابي ان يتجاوزها قبل إجراء تعديل دستوري كونها تنص على ان النائب ممثل للأمة جمعاء. قد يعتقد البعض ان قوانين الانتخابات اعتمدت تقسيم الدوائر الانتخابية بحيث يصبح المرشح عن دائرة كالقضاء أو المحافظة ممثلاً للأمة جمعاء بعد اعلان فوزه عن القضاء أو المحافظة وذلك بأصوات المقترعين في هذه الدائرة أو تلك فلماذا تكون هذه الصيغة دستورية ولا يكون انتخاب المنتمين لطائفة لمرشح من طائفتهم دستورياً ومتوافقاً مع أحكام المادة 27 ـ دستور.

ان مفهوم الأمة واضح ومحدد فلا يمكن انتخاب كل طائفة نوابها ومن ثم تجميع ما تنتخبه الطوائف في مجلس نيابي تمثيلاً للأمة لان الأمة لا علاقة لها بالطائفة انما بالمواطنية، فعندما يعلن فوز المرشح عن دائرة بحجم القضاء مثلاً يكون قد انتخب من المنتمين لكل الطوائف وليس من طائفة بمفردها ولهذا درجت القوانين على الإشارة إلى ان الترشح للانتخابات يكون على أساس طائفي اما الانتخاب فيكون على أساس وطني، وقد بدأت الإشارة إلى ذلك منذ بداية عهد الانتداب الفرنسي وصدور القرار بتشكيل مجلس نيابي عملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب.
اعتبر البيان الصادر عن اللقاء المسيحي ان «ترسيخ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين يكرس العيش المشترك» فمن قال غير ذلك ولم يعترف به بما في ذلك المادة 24 ـ دستور. والتوقف عند هذا ليس للتذكير بنص دستوري انما للقول ان العيش المشترك مكرس في الدستور من دون الاستعانة بأن تنتخب كل طائفة نوابها.

وما يوجب التوقف عنده هنا ما ورد في البيان لجهة اعتباره الطرح الأرثوذكسي صيغة صالحة «لتحقيق التمثيل العادل والفاعل لكل الفئات الشعبية» والسؤال هو التالي: ما علاقة عدالة التمثيل والفئات الشعبية بصيغة الانتخاب التي طرحها اللقاء الأرثوذكسي، فاتفاق الطائف أوضح معالم قانون الانتخاب المنشود بنصه على ضرورة «مراعاة القواعد التي تضمن العيش المشترك وتؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب…» فالنص جاء على ذكر «صحة التمثيل السياسي» وليس الطائفي وفئات الشعب تعني طبقاته ولو كان في نية المشترع ان تنتخب كل طائفة نوابها لا يعمد إلى وضعها في متن النص بهذا الوضوح.
ولعل المسألة الأخطر في البيان الماروني القول «ان المناصفة أو الشراكة الحقيقية مسألة ميثاقية تتخطى أي اعتبارات ديموغرافية كانت أم سياسية والتفريط بها يسبب حالة عدم استقرار على مستوى النظام السياسي وتهديداً للوحدة الوطنية إلى حد فتح الباب على اعادة النظر بصيغة لبنان الحالية».

ان ما ورد في هذه الفقرة مفهوم ويؤمن به اللبنانيون بدليل حرصهم في الدستور ووثيقة الوفاق الأولى والثانية على تثبيت قناعتهم هذه في متن النص الدستوري. ولكن لم يكتف بيان اللقاء بالتذكير بذلك انما اتبعه بالقول «إلى حد فتح الباب على اعادة النظر بصيغة لبنان الحالية». ان ترافق «هذا التهديد» باعادة النظر بصيغة لبنان الحالية كان من الممكن ألا يثير تساؤلات لو لم يكن وارداً في نص بيان يتبنى أن تنتخب كل طائفة نوابها وهذا يفسح في المجال لطرح سؤال منطقي هو التالي: هل يريد أصحاب البيان ومؤيدوه القول بأنه إذا لم يتم التوافق حول ان تنتخب كل طائفة نوابها تصبح إعادة النظر بصيغة لبنان الحالية مطروحة؟
ان الاقتراح الأرثوذكسي صدر عن جهة كانت دائماً تتجنب ان يسجل عليها دعوة مبطنة وان كانت بالتأكيد غير مقصودة لأحياء الفدرالية في لبنان.

ان الغساسنة حفروا في التاريخ صفحات ناصعة لا يمكن لأحد حتى لغساسنة اليوم شطبها لأن التاريخ لا يمحى.
ولأننا من الذين يفخرون بتاريخهم، ليسمحوا لنا بالمطالبة بإعادة النظر في الاقتراح الذي «لُبس» لهم أو توضيح مقاصدهم بعيداً عن مصالح بعض الذين أرادوا ان يثأروا من نتائج انتخابات كانوا مرشحين فيها ولم يحالفهم الحظ ويبحثون عن دور أو موقع ولو كان من بعد وصولهم اليه.. الطوفان وبئس المصير.  

السابق
انخفاض سعر البنزين 200 ليرة والمازوت 700 ليرة
التالي
توقيف ثلاثة على خلفية كاتيوشا المجيدية