سلام: لبنان حاجة عند الدول الكبرى

استلزم الامر اكثر من خمسين عاما، حين عاد لبنان عام 2010 الى مجلس الامن الدولي من خلال عضويته غير الدائمة ممثلا الاسرة العربية. ولم تكن السنتان مفروشتين بالرياحين، بل خضع عبرهما لبنان لاختبارات شائكة كانت تختلط فيها وبالاستحقاقات التي واجهها، العوامل الاقليمية الطاغية على وضعه بالعوامل الداخلية المحفوفة بالانقسامات والصراعات المحلية. بعد ايام، ومع انصرام السنة 2011، تنتهي هذه التجربة، فماذا يقول المعني الاول والمباشر بها مندوب لبنان الدائم لدى الامم المتحدة السفير نواف سلام؟ مجمل الاسئلة والشكوك والخلاصات التي واكبت هذه التجربة توجهت بها "النهار" الى السفير سلام، وهنا نص الحديث:

 تشارف عضوية لبنان غير الدائمة في مجلس الامن والتي استمرت سنتين الانتهاء مع نهاية السنة الجارية . وأول سؤال يمكن ان يتبادر الى الذهن هو هل كانت هذه العضوية عبئا على لبنان في ظل اعتقاد ان لبنان الرسمي كان يعد الايام لانتهاء هذه العضوية ويريح نفسه من مزيد من الاحراج؟
– لا علم لي انه كان هناك بين المسؤولين اللبنانيين من يعد الايام لانتهاء عضوية لبنان في مجلس الامن رغم بعض الاحراجات التي هي جزء لا يتجزأ من اي سياسة خارجية. على العكس، اعتقد ان لبنان، لا سيما الرسمي، استفاد من هذه العضوية. لكن ربما الافضل توجيه السؤال الى من قد يبدو انه يعد الايام من المسؤولين انفسهم.
اما انا فلا اعتبر ان العضوية كانت عبئا على لبنان بل فرصة له، فرصة اتاحت له التأكيد للعالم من اعلى منبر دولي انه يستعيد عافيته ويعود دولة فاعلة.
ويقتضي التذكير بأن لبنان كان قدم ترشيحه لعضوية مجلس الامن عام 1996 وان الجامعة العربية تبنت هذا الترشيح عام 1997. وبالتالي لم يكن مطروحا على لبنان عام 2009 ان يترشح ام لا، بل هل يبقي على ترشيحه ام يسحبه. وعليه فلو قرّر لبنان سحب ترشيحه وعدم الاقدام على تحمل المسؤولية في مجلس الامن، لكان بعث برسالة الى العالم بأنه دولة فاشلة او قاصرة. وهذا ما كان يدركه جيدا كل من فخامة الرئيس ميشال سليمان ورئيس مجلس الوزراء آنذاك، دولة الرئيس فؤاد السنيورة، في رعايتهما المضي بالترشيح.
اما بالنسبة الى مسألة الاحراج، فتجدر الاشارة الى ان السياسة الخارجية للدول هي مسألة خيارات، بين موقف وآخر، بين سياسة واخرى. وليس هناك اي خيار بلا كلفة. وهذا لا يواجهه لبنان وحده. كل الدول تواجه ذلك، صغيرة كانت ام كبيرة.

 إذاً هل تعتقدون ان هذه العضوية كانت جيدة ومفيدة للبنان وشكلت له مكسبا دوليا وتجربة ناجحة وكيف، أم انها كانت غير مناسبة ووبالا عليه؟
– الواقع انه بعدما بقي لبنان طويلا مشكلة على طاولة مجلس الامن اقله منذ 1975، او منذ الاجتياح الاسرائيلي عام 1978، اتاحت له عضويته في المجلس ان يصبح دولة جالسة الى الطاولة بدل ان يكون ملفاَ عليها. دولة صوتها مسموع من الداخل وبقوة في القضايا التي تعنيها مباشرة. وهكذا كانت تجربتنا في السنتين الماضيتين بالنسبة الى كل ما يتعلق بتنفيذ القرار 1701 وبمهمة قوات اليونيفيل.
ثم ان رأي لبنان اصبح مطلوبا في كل القضايا المطروحة في المجلس مما اعطاه قيمة مضافة، بل جعله حاجة للدول صاحبة الملفات في المجلس كما للدول صاحبة المصالح في هذه الملفات لا سيما الدول الكبرى. وتشهد على ذلك المراجعات شبه اليومية، ان مع البعثة في نيويورك او مع بيروت في شأن هذه الملفات. وكذلك المسؤولون الكبارالذين تواكبوا الى بيروت ساعين الى دعمها ومنهم مثلاً وزير خارجية صربيا ووزير خارجية السودان ومبعوثون خاصون لاريتريا واثيوبيا، وللعراق والكويت، وصولا الى الرئيس الفلسطيني محمود عباس. صار صوت لبنان حاجة عند هذه الدول كما عند الدول الكبرى التي سعت الى خطب وده في اكثر من مسألة، من قضية ايران الى ازمة ساحل العاج.  وكانت عضوية لبنان في مجلس الامن مناسبة ابرزته مجددا خير مدافع عن القضايا العربية ولا سيما القضية الفلسطينية، وذلك من جهة لما يتمتع به من صدقية عند العرب ومن اقرارهم بالكفاءة المميزة لديبلوماسييه، ومن جهة ثانية لما يلقاه اكثرمن غيره من آذان صاغية عند الغرب.
وانطلاقا من طبيعة تكوينه ونتيجة معاناته وتجاربه، عمل لبنان على ادخال فكرة "الحوار بين الثقافات" الى مجلس الامن خلال رئاسته الاولى للمجلس في ايار 2010 وذلك لاقتناعه باهميتها في معالجة الازمات خصوصا في عالم ما بعد 11 ايلول 2001، عالم تنامت فيه الصور النمطية لا سيما الخوف والتخويف من الاسلام ومخاطر الشعور بالعزل والتهميش، وبما يؤكد ضرورة معرفة الاخر واحترام ثقافته وتاريخه وتقاليده مما يخفف التوترات الدولية.
كذلك خصص لبنان في رئاسته الثانية للمجلس في ايلول 2011 جلسة
لموضوع "الديبلوماسية الوقائية". وقد حاولنا التشديد على ان مستقبل الامم المتحدة يجب الا يقتصر على ما يغلب على دورها الراهن في احتواء الازمات او ادارتها بل ان يركز على معالجة الاسباب التي يمكن ان تمنع نشوءها او انتشارها وما يوطد دعائم الاستقرار داخل الدول والسلم الاهلي في ما بينها. هذه مسألة مهمة جدا لمستقبل الامم المتحدة في العلاقات الدولية. وبينما تظهر محاضر مجلس الامن ان معظم اعضائه نوَهوا بما اعتبروه مبادرة "رؤيوية" للبنان، تعامل بعض المعلقين في لبنان معها بخفة تعكس ضيق افقهم او جهلهم باهتمامات الديبلوماسية الاممية في عالم ما بعد الحرب الباردة.
وفي النهاية ولان لبنان بلد صغير ولانه في قلب منطقة ملتهبة من العالم ومعرض اساسا للاطماع الاسرائيلية، من الضروري ان يكون له حضور دولي قوي وديبلوماسية فاعلة تعزز حمايته بموازاة تنمية قدراته الدفاعية. من هنا كان مهما جدا ان يشارك الرئيس ميشال سليمان في جلستين لمجلس الامن، الاولى في ايلول 2010 في ظل الرئاسة التركية والثانية في ايلول 2011 عندما ترأس جلسة على مستوى عال حضرها عدد كبير من رؤساء الدول او وزراء الخارجية خصصت للديبلوماسية الوقائية. كذلك كان مهما للحضور الدولي للبنان ان يترأس الرئيس سعد الحريري الجلسة التي دعا اليها لبنان حول الحوار بين الثقافات وان يترأس الرئيس نجيب ميقاتي جلسة خاصة بالوضع في الشرق الاوسط.

واجهتم في اثناء هذه العضوية محطات حرجة ان مع الحكومة السابقة خلال التصويت على فرض عقوبات على ايران او مع الحكومة الحالية في محطات عدة. فما هي طبيعة هذا الاحراج وهل نجحت في الموازنة بين متطلبات الداخل وتأثيراته في مقابل مصلحة لبنان من ضمن المجتمع الدولي؟
– على الصعيد الشخصي لم اواجه اي احراج لان ما يهمني في عملي هو ان اتمكن من ايصال تقويمي للاوضاع وتوصياتي بشأنها وفق ما اعتبره الافضل للبنان. والواقع انه لم يواجهني اي عائق في ذلك مع اي من الحكومات الاربع التي عملت في ظلها.
اما صناعة السياسة الخارجية للبنان، كما في اي دولة اخرى، فهي محصلة عاملين داخلي وخارجي. بكلام آخر هي نتيجة مشاورات داخلية بقدر ما هي نتيجة مفاوضات مع الاطراف الدوليين.
بالنسبة الى ايران، عندما دخلنا مجلس الامن كنا نقدّر ان موضوع ملفها النووي سيعود الى المجلس. وكانت لدينا تجارب سابقة كنت قد عرضتها على المسؤولين للاستئناس بها وهي امتناع كل من قطر واندونيسيا عن التصويت على قرارات مشابهة. والواقع ان تصويتنا بالامتناع لم يكن مجرد انعكاس للانقسام الداخلي بل ايضا تعبيرا عن موقف يرى ان لغة العقوبات ليست الطريق الصالحة للتعامل مع الملف النووي الايراني، وان التبديد المطلوب لتساؤلات المجتمع الدولي حول هذا البرنامج النووي سبيله الحوار.
كذلك كان نقاش ملف ايران في مجلس الامن مناسبة للبنان لان يذكر، وباسم العرب اذ كان يومها رئيسا للمجموعة العربية، بثوابت السياسة العربية في هذا المجال وهي اثنان: الحق المشروع للدول في تطوير قدراتها النووية للاغراض السلمية ومنع انتشار اسلحة الدمار الشامل. من هنا اكدنا ايضاَ دعوتنا لجعل الشرق الاوسط منطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل.
وفي الحقيقة فان تصويت لبنان بالامتناع هنا عبّر عن التوازن الدقيق للوضع الداخلي في لبنان وبين الثوابت العربية وهواجس المجتمع الدولي.

 هل من محطات اصطدمت فيها المصلحة اللبنانية والمصلحة الدولية ؟وهل ما قام به هو افضل الممكن في ظل خيار بين السيئ والاقل سوءا؟
– منذ دخوله الى مجلس الامن، اصبح لبنان شريكا في صناعة القرار الدولي. وهذا ليس امرا نظريا، كما انه ليس صحيحا ان الدول الكبرى هي وحدها صانعة القرار الدولي. فالقرارات في مجلس الامن بحاجة الى تسعة اصوات، ومن هنا اهمية الدور الذي تلعبه الدول غير الدائمة العضوية. فعام 2003 لم تستطع اميركا مثلاَ الحصول على 9 اصوات لاصدار قرار يعطي شرعية لحربها على العراق ناهيكم بان مثل هذا القرار كان يمكن ان يواجه بفيتو فرنسي. كذلك لو قدم الى التصويت اليوم مشروع قبول عضوية دولة فلسطين لسقط ليس فقط نتيجة الفيتو التي تعلن اميركا انها ستستخدمه، ولكن لعدم القدرة على جمع تسعة اصوات الى جانبه. هذه الامثلة تدل على قيمة صوت دولة مثل لبنان في مجلس الامن والدور الذي يمكن ان تلعبه في صناعة القرار الدولي.
لبنان كان شريكا اذا في القرارات الدولية التي اتخذت في مجلس الامن خلال السنتين الماضيتين. ولم يحدث مرة ان اختار لبنان مواجهة اجماع في مجلس الامن بما يمكن اعتباره اصطداما بين المصلحة اللبنانية والمصلحة الدولية.
كما ان القرارات التي اتخذها لبنان في ما يتعلق بالتصويت لم تكن خيارا بين السيئ والاقل سوءا. بل كانت عموما افضل تعبير عن مصلحته الوطنية.
موقف الامتناع بالنسبة الى ايران لم يكن خيارا بين السيئ والاقل سوءا. هو موقف جيد لانه حمى وحدة الموقف اللبناني في مسألة خلافية داخلية وعبر في الوقت نفسه بدقة عن حقيقة المناخ العربي.
تصويت لبنان في موضوع ساحل العاج مع الاجماع الدولي تأكيدا لشرعية الرئيس الحسن وتارا كان خيارا جيدا بل ضروريا لا سيما مع وجود جالية لبنانية كبيرة هناك وتفاديا للتفرد بموقف كان سيشكل خروجا مكلفاً عن الاجماع الدولي.
كما ان تصويت لبنان الى جانب القرارين المتعلقين بليبيا، 1970 و1973، كان خيارا جريئا ومهما. ثم ان التصويت الى جانب القرار الذي يدين الاستيطان في فلسطين، بل تقديم لبنان مشروع هذا القرار والجهد الذي بذله لجمع رعاية نحو 120 دولة، هو قرار مفيد جدا وليس خيارا بين السيئ والاسوأ. وكذلك هو حال كل القرارات الحيوية للدول العربية التي صوت عليها لبنان ان في شأن القوات الدولية في الصومال او الوضع في العراق او غيرها.

 بدا لبنان محرجا اكثر في الملف السوري وابتدع او استعاد تجربة الصين في التصويت في ملف الحرب بين ايران والعراق من خلال سياسة ما يسمى "النأي بالنفس" . هل انتم مسؤولون عن هذا المخرج الذي بات سياسة معتمدة لدى لبنان راهنا في مواقفه امام الجامعة العربية؟
– لا شك في ان اعتماد البيان الرئاسي المتعلق بسوريا كان لحظة دقيقة. وكان على لبنان ان يوازن بين الانقسام الداخلي ودقة علاقاته مع سوريا والمناخ الدولي العام المجمع على ادانة اعمال العنف فيها ، ولا سيما انتهاكات حقوق الانسان. لبنان لم يبتدع صيغة النأي بالنفس، تماما كما تقولون. لهذه الصيغة سوابق في مجلس الامن ولو قليلة. دور البعثة في نيويورك كان التذكير بوجودها وبامكان الاستئناس بها. فصيغة "النأي بالنفس" سمحت للبنان ان يحيّد نفسه عن مضمون البيان الرئاسي دون ان يمنع صدوره بينما كان في امكانه ان يعطل ذلك لان البيانات الرئاسية لمجلس الامن تتطلب اجماع اعضائه الـ 15.
لكن سياسة النأي بالنفس لا تصح في كل مكان وزمان. هي صيغة يمكن استخدامها عندما يكون هنالك موقف يتطلب اجماعا. ولا معنى لمصطلح النأي بالنفس عندما تكون المسألة خاضغة للتصويت. الترجمة العملية لمفهوم الحياد الذي تعبر عنه فكرة النأي بالنفس هي التصويت بالامتناع عندما يقتضي الامر التصويت. ولعل هذا ما اثار التباساً عندما استعمل لبنان مصطلح النأي بالنفس في الجامعة العربية بينما كان التعبير عن ذلك يعني التصويت بالامتناع. وفي مجلس الامن وانسجاما مع انفسنا عندما طرح مشروع قرار عن الحالة في سوريا على التصويت في تشرين الاول الماضي، فقد صوّت لبنان بالامتناع بينما واجهت كل من روسيا والصين هذا المشروع بالفيتو.
هذا من حيث الشكل. اما في الجوهر فهنالك من اعتبر ان سياسة النأي بالنفس هي اللاسياسة، وانه اذا كانت هذه سياسة لبنان فما كان عليه ان يدخل مجلس الامن اصلا. وفي تقديرنا ان هذا خطأ. فلبنان لم يعتمد الحياد الا في حالتي سوريا وايران وذلك بسبب الانقسام الداخلي الحاد حول هذين الموضوعين من جهة وبسبب دقة علاقات لبنان بهذين البلدين من جهة اخرى. وفي مطلق الاحوال فإن الحياد سياسة وليس لا سياسة. فمثلا في موضوع مشروع القرار حول سوريا، لم يصوت لبنان وحده بالامتناع بل صوّت مثله كل من البرازيل والهند وجنوب افريقيا. وهذه الدول الثلاث طامحة الى مقعد دائم في مجلس الامن ومع حق الفيتو. فهل يجوز القول انها دول لا سياسة لها في هذا الشأن؟ روسيا والصين امتنعتا عن التصويت على القرار 1973. فهل نعتبر ان لا سياسة لهما في شأن ليبيا؟
وفي رأينا اذا كانت سياسة الحياد تجاه قضايا معينة، ومنها صيغة النأي بالنفس، تسمح للبنان بالحفاظ على وحدته الداخلية وبحماية استقراره ومواجهة الضغوط الخارجية عليه، تكون هي السياسة الصائبة لا بل السياسة المطلوبة وليست اللاسياسة. 

السابق
اللقاء الديموقراطي
التالي
الحياة: الراعي يرسل وفداً الى نصرالله لدرس التطورات المحلية والاقليمية