الأقليات والأكثرية واستهدافات التغيير ومخاوفه

أزمنة التغيير الهائلة وذات المخاض الكبير، هي ذاتها أزمنة الخوف والتوجسات من جانب سائر الجهات، حتى تلك المشاركة في التغيير بهذا القدر أو ذاك· وعلى سبيل المثال، فان الشبان الذين أطلقوا الحركة التغييرية بمصر، يموتون الآن في مواجهة الجيش، توجساً منهم، أن المراد سرقة الثورة أو تعطيلها لمصالح النظام القديم! وعلى هذا، لا ينبغي المسارعة إلى الدخول في نظرية المؤامرة ومواريثها عند اول مفرق من مفارق التغيير الكبير·
على أن هذا الاعتبار الذي يقال على سبيل استطلاع قوانين التغيير وعاداته، كما يقال على سبيل النصيحة، ليس من الضروري أن يُصغي له الخائفون والمتوجسون· وعدم الاصغاء هذا له ثلاثة أسباب: قلة المتدبرين والصابرين أثناء الثورات، وان أحداً لا يستفيد من دروس الغير ونصائحه في العادة، وأن الخائف او المتوجس لا يُترك وحده، بل يأتي مَن يغذّي هواجسه، ويستثير مخاوفه، ويعرض عليه ميزات وتحالفات للانقاذ أو للنجاة أو للانتصار· والأمور الثلاثة أوهام بالطبع، لكن ومرة أخرى لا أحد اكثر من الخائف لجوءاً للأوهام واستنصاراً بها في أزمنة التغيير الكبيرة بالذات!·

إن حركات الربيع العربي التغييرية، هي حركات جمهور وأكثرية أو اكثريات· ولها وجهان متلازمان: الوجه المدني والوجه الإسلامي· والوجه الإسلامي مثير للهواجس في ضوء الصورة العالمية للاسلام (السني)، إسلام الأكثرية· لكن الوجه المدني ليس أقل إثارة للمخاوف في عيون ونفوس اقليات الشام بل سورية الكبرى· فالمسيحيون أو اكثرهم في هذا المدى الاستراتيجي، مشوا وبالتدريج خلال العقود الخمسة الماضية، وراء خنزوانات وعُقد النخب الدينية والسياسية لمسيحيي لبنان: من الإصرار على الامتيازات ضماناً للوجود، وإلى اشتراع العزلة بحجة الحفاظ على الوجود أيضاً، فإلى تدعيم هذه العزلة المانعة لقيام دولة المواطنين، من طرق تحالف الأقليات، من جانب الذين يعتقدون القدرة على الخلود من طريق الاستئثار بالسلطة والثروة··· والسلاح·

إن هذا لا يعني انه لا سبيل للتعامل من جانب الأقليات الدينية والإثنية والجغرافية، مع أزمنة التغيير التي يضعها الجمهور العام للأمة، غير الانكفاء والانفصال، وحمل السلاح، والانفراد بالسلطة، كما فعل الموارنة من قبل، والشيعة الحزبيون، والنظام السوري اليوم· ذلك أن الذي تعرضه المرحلة التاريخية الراهنة في الوطن العربي هو المواطنة والدولة الديمقراطية التي يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات، والحريات الدينية والسياسية والإعلامية أو حق التعبير· وفي هذا الخيار التاريخي والعصري دخل شباب الأقباط بمصر، إذ شاركوا في الثورة المصرية رغم نصائح البابا القبطي، ثم دخلوا في الانتخابات، وحصلوا في مرحلتيها على ضعف العدد الذي كانوا يحصلون عليه بالتعيين من جانب الأنظمة الجمهورية الخالدة· لقد خافت بعض فئاتهم، إنما ما اتجهت للهجرة أو للانعزال او للتحالفات السرية، وها هم اليوم يمضون في خيارهم، لانه هو خيار الحاضر والمستقبل الوحيد الناجع والحافظ·

على أن الذي تمضي باتجاهه اليوم زعامات دينية وسياسية وليس لدى المسيحيين فقط، بل ولدى بعض الشيعة في لبنان والعراق أيضاً، هو خيار الانعزال والعزل، والاستنصار بتحالف الأقليات، وبالسلاح الذي لا يعرض النظام السوري وحزب الله غيره! وهي تكتيكات واستراتيجيات ورهانات انقضى وقتها وزمانها قبل قيام الثورات العربية، فكيف بالأمر بعدها· فما قبل ميدان التحرير ليس كما بعده· وما قبل درعا وحماة وحمص وإدلب ليس كما بعدها·

أما الذين يريدون الوطن والدولة والعيش المشترك، بلبنان وسورية والعراق وفلسطين، فسيظلون يبحثون عن الشركاء الذين ما غادروا مواقع المواطنة والشراكة، وهم كثيرون ولن يخسر خيارهم· وإن غداً لناظره قريب·  

السابق
السفير: الأجور تُربك الحكومة … والعمالي إلى سوليدير! وفد قبرصي يبدأ مفاوضات بحرية… ولبنان يكسب مساحات جديدة
التالي
النهار: سوريا تستبق وصول المراقبين غداً بمناورات مقتل 50 مدنياً ومئة منشقّ في تصاعد للعمليات